عمران سلمان – الحرة – 18 أكتوبر 2018/
في عام 2007 كتبت مقالا عنوانه “العلمانية هي الحل”. وأحسب أنه لا يزال صالحا حتى اليوم، لكني لا أعيد نشره هنا، وإنما أقتبس منه الجملة التالية.
“إن العلمانية، في حقيقتها ليست موجهة ضد الدين، وإنما هي وسيلة لتنظيم العلاقة بين السياسي والديني. إنها تعني حياد الدولة في شؤون الدين، وإبعاد الدين عن المجال السياسي. ولهذا يصدق القول إن الإنسان يمكنه أن يكون متدينا وعلمانيا في الوقت نفسه. كما أنه ليس كل علماني هو ضد الدين، أو كل متدين هو ضد العلمانية”.
والليبرالية هي أيضا في جوهرها ليست مناهضة للدين، وهي محايدة من جهة السياسة. إنها اتجاه عام يتبنى قيم الحرية والقانون والدولة المدنية. وبهذا المعنى فالليبرالية أقرب إلى الفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يسمح ويشجع مختلف الاتجاهات في المجتمع على النشوء والنمو والازدهار، من دون أي إلغاء أو تغول. إن الليبرالية توفر البيئة الصحية للجميع، كي يبرزوا أنفسهم ويديروا الاختلافات فيما بينهم بصورة تصب في صالح المجتمع، وهو أمر أحوج ما نكون إليه في يومنا الراهن.
الليبرالية والدين
واجهت محاولات إشاعة الليبرالية في العالم العربي تحديات كثيرة، دارت في معظمها حول العلاقة مع الدين والسياسة. وطوال العقد الماضي كنت شخصيا شاهدا على نشاط الاتجاه الليبرالي والإصلاحي في المنطقة. وكان موقع آفاق الذي تشرفت بتأسيسه وإدارته (ما بين 2006 و2009) أحد المواقع الليبرالية القليلة التي دعمت هذا الاتجاه، وأيضا عانت من الانتكاسات التي مر بها.قضية الإصلاح الليبرالي في العالم العربي والتي تراجعت للخلف مؤقتا جراء “ثورات الربيع العربي” لا تزال ملحة اليوم، كما هو الحال قبل هذه الثورات
ركز مناهضو الليبرالية على فكرة مضللة مفادها أن الليبراليين العرب هم حكما من المناهضين للدين. وأنهم شجعوا التحركات والمبادرات الهادفة إلى تقويض العادات والتقاليد في بعض المجتمعات العربية.
ولا يمكن إنكار أن بعض الشخصيات الليبرالية العربية، لها موقفها السلبي المعلن من الدين. لكن في معظم الحالات كان هذا الاتهام محاولة صرفة لتشويه صورة الليبراليين وتأليب العامة والحكومات ضدهم.
فعلى سبيل المثال تصدى الليبراليون في بلد مثل السعودية ودعموا تحركات النساء من أجل الحصول على حقوقهن. ولعبت مواقع مثل الشبكة الليبرالية السعودية وغيرها، دورا مهما في خلق بيئة مكنت الناشطين والناشطات من المطالبة بتلك الحقوق. كما تصدى آخرون إلى الانتهاكات الجسيمة التي مارسها رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد تعرض الليبراليون السعوديون بسبب ذلك إلى حملة شعواء قادتها المؤسستان الدينية والسياسية وبعض الأقلام التي تدور في فلكهما.
ولم تتم إعارة أي انتباه إلى أن هذه القضايا هي من صميم حقوق الإنسان، ولا شأن لها بالدين أو العادات الاجتماعية.
الليبرالية والسياسة
أيضا وجه بعض المناهضين انتقادات إلى الليبراليين بأنهم وقفوا إلى جانب الحكومات العربية، عندما تعلق الأمر بقمع الإسلاميين. وثمة بعض الوجاهة في هذا النوع من النقد، فليس هناك ما يبرر قمع أي جماعة معارضة تتبنى المنهج السلمي ولا تطمح إلى إلغاء الآخر. وبالطبع لم يكن يتعين على بعض الليبراليين أن يبرروا ما تفعله الحكومات العربية في هذا الصدد، أو أن يكونوا طرفا في مثل هذا الصراع.
لكن الإنصاف يقتضي منا أن نقول أيضا إنه في بعض الحالات لم يكن الأمر بمثل هذه البساطة، ففي الدول التي لها تجارب مريرة مع تنظيمات الإسلاميين وعنفهم، من الصعب عدم تفهم موقف الحكومات، أو الدفاع عن جماعات لا تخفي أهدافها في السيطرة ومصادرة حق الآخر في الوجود والتعبير.
وفي الحالات التي يكون فيها مصير الدولة نفسه مهددا من قبل جماعات ترفع لواء الدين وتستخدم العنف والإكراه، من الطبيعي أن يقف الليبراليون وجميع الحريصين على بقاء الدولة ومؤسساتها، ضد تلك الجماعات.
أما في حالات أخرى، وهي ليست قليلة أيضا، حين استخدمت الحكومات العربية سلطتها لقمع المخالفين السياسيين لها، بمن في ذلك الإسلاميين، فقد وقف الليبراليون وغيرهم ضد تسلط هذه الحكومات. ونشاط عشرات من الناشطين والحقوقيين العرب أبرز دليل على ذلك.
بعبارة أخرى، رغم وجود ليبراليين عرب فضلوا الوقوف إلى جانب الحكومات، لم تكن حصيلة الليبراليين من قمع هذه الحكومات، قليلة أبدا.
الإصلاح الليبرالي.. ضرورة!
بالطبع هناك انتقادات أخرى يثيرها مناهضو الليبرالية في المنطقة، لا يتسع المجال هنا للحديث فيها. لكن يمكن القول إجمالا إن أغلب هذه الانتقادات، رغم صحة بعضها، لا يخرج عن المناكفة وتصفية الحسابات وخدمة أجندة سياسية أو دينية معينة.
فقضية الإصلاح الليبرالي في العالم العربي والتي تراجعت للخلف مؤقتا جراء “ثورات الربيع العربي” لا تزال ملحة اليوم، كما هو الحال قبل هذه الثورات.سوف يصنع الليبراليون خيرا إن هم أولوا قضية الثقافة والقيم اهتماما مثل اهتمامهم بقضيتي الدين والسياسة
فالمجتمعات العربية لم تنجز مهمات بناء الدولة المدنية الحديثة، والحريات غائبة أو مغيبة، والقبول بالآخر مجرد تمرين لفظي لا وجود له في الواقع، والاحتكام إلى القوانين مرهون بالإرادة السياسية للحاكمين، والدساتير رغم احتوائها على الكثير من الحقوق، مفرغة من محتواها.
وقد يكون أحد مداخل التغيير المهمة هو الاشتغال على الثقافة السائدة. أي منظومة القيم والمبادئ التي تسود اليوم العالم العربي. فهذه المنظومة لا تزال تكرس الأحادية في التفكير والنظرة الدونية للآخر، ولا تزال أسيرة التفكير القديم، في المفاضلة والتمييز على أسس دينية وطائفية وقومية.
هذه المنظومة لا تعيق فحسب، قضية الليبرالية، ولكنها أيضا تدمر أي أمل للمجتمعات العربية في مستقبل آمن ومستقر ومزدهر.
فالخلاف الشيعي ـ السني اليوم مثلا هو خلاف سياسي بين دول، وليس خلافا بين طائفتين. لكنه لم يتطور ليصبح نزاعا شاملا، لو أن الثقافة السائدة في المنطقة، تنظر للمكونات الدينية والطائفية بعين الاختلاف وليس بعين التمييز. فالشيعي ليس أفضل أو أسوأ، أعلى أو أدنى، على حق أو على باطل، من السني أو العكس؛ وإنما هما مجرد طائفتين مختلفتين. الاختلاف لا يولد العداء، ولكن التمييز يفعل ذلك.
وسوف يصنع الليبراليون خيرا إن هم أولوا قضية الثقافة والقيم اهتماما مثل اهتمامهم بقضيتي الدين والسياسة.