بقلم/ عمران سلمان – صحيفة البيان الإماراتية – 8 مارس 1999
الذين عاشوا سنوات الخمسينات والستينات وما بعدها, شهدوا فورة الحماس للوحدة والثورة والاشتراكية في المنطقة العربية . ثم عاينوا بأنفسهم تراجع أو إخفاق هذه المشاريع التي ملأت أسماع الناس وأفئدتهم فترة طويلة. وقد قيل الكثير في أسباب ذلك الإخفاق, وكتب الأكثر في معرض تبرير ما حدث. أولئك أنفسهم يشهدون اليوم أيضا فورة حماس جديدة, ولكنها فورة الديمقراطية هذه المرة. فهى حلالة المشاكل والسبيل الى القضاء على عيوب المجتمع كافة, وهى الطريق الى التقدم واللحاق بركب الحضارة, بها يتحقق كل شيء وبدونها لا معنى لأي شيء.. الخ. وإذا أطال الله في أعمارهم قد يشهدون أيضا اخفاقات هذا المشروع في الأرض العربية. طالما أن طريقة التعامل معها, هى عين الطريقة التي عولمت بها مشاريع الوحدة والاشتراكية.. الخ. والمشكلة باعتقادي لا تكمن في أهمية أو عدم أهمية هذه المشاريع. فلا أحد يختلف حول الغايات النبيلة التي أوجدت من أجلها هذه الأفكار وجذبت الناس من حولها. لكن المشكلة تكمن في أدلجتها. أي تحويلها الى مشروع أيديولوجي يتعصب الناس له وحوله, دون أن تتسنى لهم مع ذلك الإمكانية كي يفهموا كيف ومتى ولماذا ينبغي الأخذ بهذا المشروع. انهم يحولونه الى شيء مطلق ومقدس, أو إذا جاز التعبير عصا سحرية بإمكانها أن تحل كل شيء وأي شيء بضربة واحدة. وبطبيعة الحال في مثل هذه الحالة يستحيل النفاذ الى جوهر الشيء وعدم الاكتفاء بالقشور, بل يستحيل دفعه للإفصاح عن حقيقته أو تبين افضلياته من سلبياته. ومن ثم يتحول هذا المشروع في نهايات المطاف الى شعار تمارس باسمه وتحت اسمه أيديولوجية قد تكون سلطوية أو معارضوية, وما يرافقها من مشكلات وأزمات وإجراءات قسرية في جميع الاتجاهات. هذا في حين أن أي من تلك المشاريع لا يمكن أن يتحقق في الواقع بدون عمل وجهد وتراكم حضاري على مدى سنوات طويلة. لا يمكن أن يتحقق بدون ثقافة حقيقية وإعداد وتهيئة اجتماعيتين جديتين. غير أنه ونتيجة لغياب هذه المتطلبات بالذات ونتيجة التعامل الشكلي والسهل مع هذه القضايا, فقد تحولت الوحدة في العالم العربي الى نوع من الدمج القسري الذي عاد سلبا على دعاتها والمتحمسين لها, قبل أعدائها. كما تحولت الاشتراكية الى نوع من التجريب المجتمعي وعمليات إقصاء متوالية للآخر. ويمكن أن تتحول الديمقراطية بنفس الطريقة الى وبال وداء عضال في مجتمعاتنا العربية, إذا نظر اليها كمجرد تفصيل أيديولوجي بالإمكان تطبيقه متى وكيفما شئنا. إذا لم ينتبه الكثيرون الى الأهمية الحيوية التي تشكلها استعدادات المجتمع واستعداد الإنسان ثقافيا واجتماعيا ومعرفيا. والحال أن من حق أي كان أن يعتقد بصحة هذا المشروع الحضاري أو ذاك, وأن يسعى جاهدا الى رؤيته يتحقق على أرض الواقع. فالإنسان في النهاية لا يستطيع أن يحيا بدون هدف أو غاية تحرك سلوكه وتوجهه. لكن المشكلة تنشأ حين يغلب الحلم أو رغبة الخلاص والتحقق, على الإمكانيات الواقعة للمشروع. حينها تتحول الأشياء الى نقائضها, وتتبدد الغايات النبيلة من حولها, ليحل معها جري متكاثر نحو الغلبة والاستئثار بالسلطة أو الامتيازات والغنائم. والحال أن هذه نتائج طبيعية ومجربة أولا للجهل بالشيء وتبسيطه ثم التعاطي معه بكسل واتكالية.. وقبل ذلك وبعده الاستهانه بالواقع وحقائق الأشياء..