عمران سلمان – الحرة – 31 مايو 2019/
ثمة صراعات عديدة تجري حاليا في المنطقة العربية. وهي كلها واضحة المعالم وملموسة باستثناء صراع واحد، قلما يجري الحديث عنه.
فهناك من جهة صراع بين ما يسمى محور “المقاومة” وما يسمى محور “الاعتدال”، والضجيج الناتج عن اشتباك المحورين، في أكثر من ساحة، يكاد يصم الآذان، ويطغى على ما سواه.
وهناك صراع بين المتدينين وغير المتدينين، حيث المناوشات بين الاتجاهين آخذة في التزايد كما وكيفا. وهناك أيضا الصراع السياسي/المذهبي بين السنة والشيعة، والذي تتراوح أشكاله ما بين العنف المسلح ونبرات التنابذ والسباب والاتهامات المتبادلة.
بين التغيير والمحافظة
لكن ثمة صراع أكبر باعتقادي، قد يشمل كثير من هؤلاء وأولئك، وهو بين من يتطلعون نحو التغيير والحرية والديمقراطية والحداثة والتنمية من جهة، وبين من يسعون نحو الإبقاء على الوضع القديم والنمط التقليدي والمألوف في الحكم وفي العلاقات ما بين المواطنين وأنظمتهم. وبين الفريقين هناك من يحاول أن يركب عجلة التقدم والحداثة ولكنه يرفض أن يدفع أجرة ركوبه هذا.الأوضاع في المنطقة عموما تسير في اتجاه انضاج الظروف الملائمة للتغيير الإيجابي
هذا الصراع عادة لا يجد الاهتمام الكافي ولا يتوقف عنده المحللون. رغم أن الفوضى العارمة التي نشهدها اليوم، هي في جانب منها نتاجا لاحتدام الصراع بين الجديد والقديم والذي يجري بأشكال ومستويات وأنماط مختلفة، وفي ظل محاولات مستميتة لتشويه هذا الصراع وحرفه وخلط جميع الأوراق أمام المواطنين عبر الإعلاء من شأن الاختلافات السياسية والدينية والطائفية والعرقية.
القوى الكبرى، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وتاليا الولايات المتحدة وروسيا إلى حد ما، ساهمت (تاريخيا) بصورة من الصور في هذه الفوضى، إما بوقوفها مباشرة مع طرف ضد آخر أو بصورة غير مباشرة عبر جملة من السياسات التي أضفت على الصراع أبعادا إقليمية ودولية، لكن المسؤولية الأساسية تظل من نصيب المنطقة وساكنيها.
اختلاف في الدرجة وليس في النوع
في الجوهر لا يختلف محور “المقاومة” عن محور “الاعتدال”، فكلاهما يسعى إلى الإبقاء على أشكال قديمة من الحكم والعلاقات السياسية، وكلاهما يناصب العداء لقيم التقدم والحداثة، بشكل أو بآخر. الفرق بينهما هو أن كل محور يريد تشكيل المنطقة على نمطه وصورته. لذلك فهما حلفاء من جهة وخصوم من جهة أخرى.
في المقابل فإن قيم التقدم والحداثة هي عابرة للمجتمعات والحكومات، فهناك مؤيدون لها في أوساط الحكومات وفي أوساط المواطنين.
خلال ثورات الربيع العربي، والتي كانت بمثابة تعبير نادر عن توق المواطنين في جميع البلدان العربية تقريبا نحو الحرية والتغيير والحداثة، كان واضحا أن كلا المحورين يسعى إلى تجيير هذه الثورات وإعادتها إلى نفس العناوين القديمة.
فالإخوان المسلمون الذي يمثلون قيم المحافظة تمكنوا من ركوب موجة هذه الثورات واختطاف بعضها. في المقابل تحرك محور “الاعتدال” بدوره، وقام بإزاحة الإخوان والإسلاميين عن الصدارة.
والواقع أن كلا الفريقين لا يختلف عن الآخر سوى في الدرجة. كلاهما لديه نموذج ماضوي أو سلطوي يسعى لتطبيقه، ولكن تحت عناوين ومسميات مختلفة.
وما يساعد هذين الفريقين على النجاح أمران. الأول أن الإرث السلطوي العربي قديم ومتجذر ولديه خبرة طويلة في إدارة المجتمعات العربية وتوجيهها، ولذلك يسهل عليه التعامل مع التحركات الشعبية وإفراغها من محتواها. والأمر الثاني أن أفكار التغيير والحداثة وإن لم تكن حديثة العهد في المنطقة، إلا أنها لم تكن ذات يوم اتجاها قائما بذاته. ورغم أنها شكلت طموحا مستمرا للعديد من الأجيال العربية، فقد كانت على الدوام جزءا ملحقا بالاتجاهات الأخرى، ولم يجر التأسيس لها فكريا ومعرفيا وسياسيا.
التغيير الإيجابي ليس مستعصيا
إن الحداثة النسبية لهذا الاتجاه، وانتشاره أفقيا في المجتمعات العربية تجعل من الصعوبة بمكان تأطيره وبروزه على شكل تيار فكري أو سياسي. وإن كنت لا أشك بأن ذلك سوف يحصل في نهاية المطاف.
والواقع أن النزوع للتغيير أو التطلع للحرية أو نشدان الحداثة، ليست قيما خاصة بفئة أو جيل أو جنسية أو قومية بعينها. هي قيم كونية يشترك فيها جميع البشر. لكن ما لم يتم بلورتها على أسس ملائمة وجعلها واضحة المعالم، فإنه من السهل الحديث عنها لكن من الصعب تطبيقها.قيم الحرية والحداثة والتنمية والتقدم هي الجديرة بأن تستحوذ على اهتمام وتفكير وجهود أبناء المنطقة
فهناك الكثيرون الذين ينشدون التغيير، ولكنهم يريدونه لمصلحتهم فقط، وهناك من يسعون نحو التقدم، ولكنهم يقصون منه من يعتبرونهم خصومهم الفكريين، وهناك من يتطلع للحداثة ولكنه مشدود إلى الماضي، ويخشى التغيير.. وهكذا.
شخصيا أرى أن الأوضاع في المنطقة عموما، رغم مأساويتها، تسير في اتجاه انضاج الظروف الملائمة للتغيير الإيجابي، وأن الصراعات السياسية والطائفية الناشبة حاليا سوف تكشف مع الوقت عن عبثيتها واتجاهها النكوصي، وأن قيم الحرية والحداثة والتنمية والتقدم هي الجديرة بأن تستحوذ على اهتمام وتفكير وجهود أبناء المنطقة. فالتاريخ لا يمكنه أن يسير إلى الأمام في كل مكان ويستثني المنطقة العربية.