عمران سلمان – الحرة – 14 يونيو 2019/
ذاكرة الإنسان انتقائية، ولهذا السبب فهي قصيرة. لا يعني ذلك أن الإنسان لا يتذكر بالضرورة الأحداث البعيدة، ولكنه يعني أن الإنسان يركز على الأحداث التي تناسب هواه وتخدم وجهة نظره، ويتغافل عن أحداث أخرى ويتجاهلها حتى يطويها النسيان أو يصعب تذكرها.
ظهور الحجاب
كثيرون لا يتذكرون مثلا أن الحجاب في شقيه، السني والشيعي، وفي شكله الحالي على الأقل، لم يكن موجودا قبل الثورة الإيرانية عام 1979، بل إن البعض يصور الأمر على أن الحجاب الحالي، وكأنه يعود إلى مئات السنين أو يمتد إلى العصر الإسلامي الأول.
بالطبع كانت النساء قبل الثورة الإيرانية، وخاصة في الأرياف والقرى والمناطق المحافظة في طول المنطقة العربية وعرضها، يضعن بعض الأغطية على رؤوسهن، ولكن كان ذلك تعبيرا عن عرف أو تقليد اجتماعي في الغالب، ولم يكن لأسباب دينية.الانقلابات العسكرية ساهمت إلى حد بعيد في القضاء على ثقافة المدن العربية
الحجاب الحالي، وأنا لا أنتقده هنا فهو في الأخير حرية شخصية، هو تعبير سياسي أكثر منه ديني، لأنه مرتبط بحقبة معينة ساد فيها فهم معين للإسلام، ولم يكن موجودا قبلها. كما أنه استخدم في فترة لاحقة للتعبير عن التزام ديني معين، كما لو أن المسلمين لم يكونوا يعرفون أو يلتزمون بدينهم قبل ذلك التاريخ.
الجماعات المتشددة
ينطبق الأمر هنا أيضا على الجماعات الإسلامية المتشددة. إن من يرى انتشارها اليوم يعتقد بأنها موجودة منذ سنوات طويلة، بينما الحقيقة أن سنوات السبعينيات هي الفترة التي يمكن الإشارة إليها لظهور وانتشار هذه الجماعات. باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي يعود تاريخها إلى العشرينيات، والتي لم يكن لها على أية حال نشاط ملحوظ قبل ثلاثين أو أربعين عاما. بل كانت أفرعها في المنطقة دائما على هامش الحياة السياسية والأدبية والثقافية والإعلامية العربية.
والإشارة إلى فترة السبعينيات لها أهمية قصوى لفهم ما يجري اليوم في العالم العربي. فهناك أولا حرب أفغانستان أو الغزو السوفييتي لهذ البلد والذي شهد أولى المحاولات الجادة لتنظيم وعسكرة الجماعات الإسلامية على نطاق واسع. وبهذا المعنى فقد كانت تجربة أفغانستان هي الرافعة للعمل الجهادي المسلح بشكل عام. طبعا كان ذلك بمباركة رسمية وغير رسمية من حكومات وأنظمة في المنطقة وخارجها.
وهناك ثانيا الثورة الإيرانية التي قدمت نموذجا لإمكانية إقامة دولة دينية لأول مرة في العصر الحديث في المنطقة.
الإسلام “الصحراوي”
لكن تبقى الدلالة الأهم في تلك المرحلة هي حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل، وتحديدا قطع النفط العربي عن الغرب، والذي أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعاره. تخيل مثلا أن يرتفع سعر برميل النفط من 3 دولارات إلى 14 دولار؟
هذا الارتفاع صب في خزائن الدول النفطية، وخاصة الخليجية، مبالغ طائلة. ومن هذه المبالغ تم تمويل ونشر النسخة “الصحراوية” من الإسلام في العالم مثل النار في الهشيم، سواء عبر التمويل المباشر أو المنح الدراسية أو التمكين السياسي.الحجاب في شكله الحالي على الأقل، لم يكن موجودا قبل الثورة الإيرانية عام 1979
هذه النسخة التي ترتكز على السيف وترفع شعار التكفير، قدمت الإسلام على أنه ديانة حرب وقتل وغزو. وبالطبع ساهمت أموال النفط ليس فقط في تمويل هذه النسخة “الصحراوية”، وإنما في رفع منسوب التيارات الإسلامية كلها في المنطقة بشكل أو بآخر. ولولا هذه الأموال لما تمكنت الجماعات المتشددة من تنظيم نفسها أو تجنيد المسلحين أو البقاء حتى اليوم.
ترييف المدن
الأمر الثالث الذي يجدر الحديث عنه هنا بما أننا نتحدث عن الذاكرة، هو أن المنطقة العربية التي نعيشها اليوم، كانت مختلفة تماما من النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية ومظاهر التمدن، قبل الثورات أو الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ حقبة الخمسينيات والستينيات.
هذه الانقلابات، والتي قادها في الغالب ضباط قادمون من القرى والأرياف، ساهمت إلى حد بعيد في القضاء على ثقافة المدن العربية وتقاليدها ونشاطها وحضارتها.من هذه المبالغ تم تمويل ونشر النسخة “الصحراوية” من الإسلام في العالم
فقد كان المعوّل أن يتم تمدين القرى والأرياف مع مرور الوقت، لكن ما حدث بدلا من ذلك هو ترييف المدن والعواصم العربية، وساهم الزحف العكسي والعشوائي باتجاه المدن في تآكل المكاسب الحضارية والثقافية والتعليمية التي تحققت في العقود السابقة.
حدث ذلك في معظم المدن العربية، بما في ذلك دول الخليج، التي وإن اتخذ فيها هذا الأمر طابعا مختلفا نسبيا عن باقي الدول العربية، إلا أن المدينة هنا أيضا عانت من آثار إشاعة وغلبة ثقافة التصحر والبادية.
وفي المجمل يمكن القول إن التدهور الحاصل على جميع الأصعدة في المنطقة العربية، يعود في جانب كبير منه إلى التطورات التي ذكرتها أعلاه، وإنه لا يمكن تحقيق أي نهضة من دون إعادة الاعتبار إلى المدينة وثقافتها وتقاليدها ودينها المعتدل.