هل تسخر “شارلي إيبدو” من الدين الإسلامي والنبي محمد فقط أم من جميع الأديان؟

علاء خزام (مونت كارلو الدولية)

تعيد واقعة ذبح الأستاذ صامويل باتي الجمعة 16 تشرين الأول 2020 على يد إرهابي إسلامي إلى الواجهة قضية رسومات مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة بعد خمس سنوات على اعتداء إرهابي ضرب مكاتبها وأتى على خيرة رساميها.

لم يُقتل صامويل باتي لأنه أستاذ فقط، كما أن الإرهابي الشيشاني الذي قطع له رأسه لم يكن يستهدف المدرسة الجمهورية والتعليم وفلسفة الأنوار فحسب. من الواجب التذكير بأن القتل المروع للأستاذ باتي وقع بعد أن عرض هذا الأخير رسومات “شارلي إيبدو” للنبي محمد في إطار حصة دراسية عن حرية التعبير.

وتنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية وغيرها عشرات الآلاف من التعليقات التي ترحّب بالإرهاب علناً وتهلل لقطع الرؤوس وذبح المدنيين، أو تبرر كل ذلك بحجج تتراوح بين اتهام الأستاذ والمجلة بـ”المساس بمقدسات المسلمين” وبين القول إن ما وقع رد فعل على تصرفهما وبين إدانة الجريمة ثم إضافة تجريم للمجلة والأستاذ واتهامهما بنشر “خطاب كراهية عن المسلمين”.

ورغم أن المجلة لا تتخذ من المؤمنين العاديين، من جميع الأديان، موضوعاً لرسومها الكاريكاتيرية، بل تركز فقط على العقائد الدينية والرموز الدينية والروايات الدينية التاريخية لجميع الديانات لأنها مجلة ملحدة، إلا أن كثيرين يصرّون على القول، دون كبير دراية، بأنها “تستهدف المسلمين” أو أنها “عنصرية ضد المسلمين” وما شابه ذلك.

وحتى حين يعترف بعض المعلقين على وسائل التواصل أو في بعض النقاشات العامة، وبعد رؤيتهم لنماذج من رسومات “شارلي إيبدو”، أن المجلة فعلاً لا تستهدف المؤمنين أنفسهم، بل العقائد الدينية، فإنهم ينتقلون بسرعة إلى الدفاع عن فكرتهم بتقديم حجة تقول “صحيح أن مجلة “شارلي إيبدو” لا تسخر من المسلمين العاديين بل من عقيدتهم الدينية، لكنها لا تفعل الشيء نفسه لا مع المسيحية ولا مع اليهودية”. بحسب هذه النظرة، فإن “شارلي إيبدو” لا تفعل منذ تأسيسها عام 1970 إلا السخرية من العقيدة والدين الإسلاميين فقط.

"أنا في الكشك" تعنون "ليبراسيون" في إشارة إلى عدد "شارلي ايبدو" التي استخدم رساموها لإنجازه مكاتب الجريدة
“أنا في الكشك” تعنون “ليبراسيون” في إشارة إلى عدد “شارلي ايبدو” التي استخدم رساموها لإنجازه مكاتب الجريدة © رويترز

على سبيل المثال لا الحصر

في 7 شباط 2007، ظهر عدد “شارلي إيبدو” ويصور على غلافه ثلاثة رجال دين، يهودي ومسلم ويتوسطهما مسيحي، ويتهكم من محاولة ممثلي الأديان المفترضين السيطرة على خطاب المجلة الناقد والساخر والراغبين في تكميم صوتها ومنعها من العمل. يبدو الرجال الثلاثة غاضبين للغاية ويحمل كل واحد منهم رمزه الديني الخاص وهم يقولون بصوت واحد “يجب تغطية شارلي إيبدو”.

في 7 كانون الأول 2011، خصصت “شارلي إيبدو” غلافها للمسيح ورسمته تحت عنوان “عشاء الحمقى”، في إشارة إلى قصة “العشاء الأخير” للمسيح وحواريه المذكورة في الإنجيل. يبدو المسيح ماداً يديه وتعلو وجهه ابتسامة عريضة ويقول “إلى الطاولة”.

في 30 أيار 2012، وطوال عام 2012، كرّست “شارلي إيبدو” جهودها للسخرية من فضيحة تسريب وثائق هامة من الفاتيكان في تلك السنة. رسمت في ذلك العدد على غلافها بابا الكنيسة الكاثوليكية السابق بنوا السادس عشر تحت عنوان “جاسوس في الفاتيكان”، ورسمت حيوان خلد (يرمز في فرنسا إلى التجسس) وقد أخرج رأسه من عباءة البابا من جهة عضوه الذكري.

"عشاء حمقى" - "يجب تغطية شارلي إيبدو" - "جاسوس في الفاتيكان"
“عشاء حمقى” – “يجب تغطية شارلي إيبدو” – “جاسوس في الفاتيكان” © شارلي إيبدو

في عدد 9 تشرين الأول 2011، نشرت “شارلي إيبدو” رسماً كاريكاتيراً يسخر من السياسة الإسرائيلية تجاه إيران والتهديدات التي كانت تطلقها إسرائيل بمهاجمة إيران. يصور الرسم، الذي جاء بعنوان “إسرائيل تريد مهاجمة إيران”، جندياً إسرائيلياً يقول “لم نقدّر ذلك” ويحمل في يده عدداً من مجلة خيالية رسم على غلافها النبي موسى وهو نصف عار وقد وضعت قنبلة في مؤخرته، بينما كتب على غلاف المجلة عبارة “موسى شاذ”.

في 4 آذار 2013، سخرت “شارلي إيبدو” بقسوة من عادة ختان الذكور لدى اليهود في اليوم الثامن بعد ولادتهم. ظهر رسم ساخر يبدو فيه رجل دين يهودي يحمل سكيناً ملطخاً بالدم وأمامه طفل رضيع موضوع على لوح تقطيع خشبي بينما يقف والده بجانبه. يسأل الأب “لماذا لا ننتظر حتى يبلغ سناً يفهم فيها هذا الأمر؟”، فيرد رجل الدين اليهودي “لا، علينا أن نستغل عدم فهمه طالما نستطيع التحكم فيه”.

في 13 آذار 2013، وبمناسبة انتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثوليكية، وضعت “شارلي إيبدو” على غلافها صورة تسخر من المسيح وقد ظهر معلقاً على الصليب يمد لسانه وحوله بعض رجال الدين المسيحي، وهو يقول لهم: “أنزلوني من هنا… أريد أن أصوّت في الانتخابات”.

"انتخابات الفاتيكان" - "ختان الذكور" - "إسرائيل تريد مهاجمة إيران"
“انتخابات الفاتيكان” – “ختان الذكور” – “إسرائيل تريد مهاجمة إيران” © شارلي إيبدو

عام 2014، أصدرت “شارلي إيبدو” عدداً خاصاً مكرساً بالتمام والكمال للسخرية اللاذعة من قصة ولادة المسيح عنونتها “القصة الحقيقية لولادة المسيح الصغير”. وإذا لم نتحدث إلا عن الغلاف الجريء للغاية فقط، نستطيع أن نرى العذراء، أم المسيح، وقد فتحت رجليها وكأنها تضع مولوداً وخرج منهما طفل صغير محاط بأشعة صفراء، في سخرية وتهكم لا حدود له.

في 18 تموز 2014، ظهر رسم ساخر في “شارلي إيبدو” يتهكم من السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ويصور مشهداً متخيلاً في قطاع غزة. يبدو فيه جندي إسرائيلي فوق دبابة ويقول “حماس تأخذ سكان غزة كرهائن”، فيتابع جندي إسرائيلي آخر وهو يطلق النار على مدني بالقول “ولهذا السبب فنحن نقتل الرهائن”.

في 6 كانون الثاني 2016، وبمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاعتداء عام 2015، أصدرت “شارلي إيبدو” عدداً خاصاً يصور على غلافه الله نفسه بصورة شخص غاضب يحمل على ظهره بندقية نارية وكتبت فوقه “القاتل لا زال يركض”.

"القصة الحقيقية لولادة المسيح الصغير" - "القاتل لا زال يركض" - "حماس تأخذ سكان غزة كرهائن"
“القصة الحقيقية لولادة المسيح الصغير” – “القاتل لا زال يركض” – “حماس تأخذ سكان غزة كرهائن” © شارلي إيبدو

في 6 تشرين الثاني 2019، ظهر رسم في عدد “شارلي إيبدو” يتحدث عن “الله والأخلاق” ويصور ثلاثة رجال دين، مسيحي ويهودي ومسلم، يقفون كما لو كانوا بائعين في مطعم “ماكدونالدز” ويستقبلون طلبات الزبائن. ويقول رجل الدين المسيحي لواحدة من الزبائن “وجبة ماكدونالدز ملحدة؟ كبيرة مع البطاطا المقلية والكوكا كولا؟”.

في 3 شباط 2020، رسمت المجلة النبي موسى وهو يحمل اللوح الذي تقول الرواية الدينية أنه نزل عليه من الله ويتضمن “الوصايا العشرة” المعروفة. غير أن “شارلي إيبدو” سخرت من موسى وكتبت على اللوح “وصايا شارلي إيبدو العشرة” ورددت عشر مرات نفس العبارة المقذعة في كل وصية وتقول “يا الله سوف نضاجعك”.

في 24 تشرين الثاني 1977، وبمناسبة زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى إسرائيل وبداية مسار السلام بين البلدين، صدر عدد “شارلي إيبدو” يسخر من أنور السادات ومن مناحيم بيغن. رسمت “شارلي إيبدو” على غلافها شخصين، وقد أنزل الأول بنطاله بينما شرع الثاني في لحس مؤخرته، وفوقهما عنونت “شارلي إيبدو” بعبارة “عربي يلحس مؤخرة يهودي”.

"عربي يلحس مؤخرة يهودي" - "الوصايا العشرة لشارلي إيبدو" - "وجبة ماكدونالدز ملحدة"
“عربي يلحس مؤخرة يهودي” – “الوصايا العشرة لشارلي إيبدو” – “وجبة ماكدونالدز ملحدة” © شارلي إيبدو

في 2 تشرين الثاني 1978، نشرت “شارلي إيبدو” غلافاً يصور هتلر وهو يرقص ويقول “مرحباً أيها اليهود. ما أخبار الغاز؟”، في إشارة إلى غرف الغاز التي قتل فيها النازيون ملايين اليهود في معسكرات الاعتقال. وأرفقت المجلة الغلاف بعبارة “رائع للغاية”. لكنها لم تكن بطبيعة الحال تقصد تأييد الفعل الإجرامي النازي، بل السخرية والتهكم اللاذع من مقابلة كانت نشرت في حينه مع المفوض السابق لشؤون اليهود في عهد الحكومة الفرنسية الموالية للاحتلال النازي، وقال فيها “في معسكر اعتقال أوشفيتز كنا نخنق بالغاز القمل فقط”.

في 17 تشرين الثاني 1978، عادت المجلة، إلى موضوع المقابلة نفسها، ونشرت على غلافها رسماً لسيدة عارية راكعة على ركبتيها ويبدو ظهرها ومؤخرتها فقط. كتب المجلة على الغلاف عبارة “هل تساعد العنصرية في البيع؟”، بالإضافة إلى عبارة أخرى تشير إلى مؤخرة السيدة وتقول “مؤخرة فتاة يهودية”.

في 15 كانون الثاني 1979، نشرت “شارلي إيبدو” على غلاف عددها رسماً يتحدث عن المحرقة اليهودية ويتهكم بالقول “تصوير فيلم الهولوكوست”. يبدو فيه معتقلون يهود بلباسهم المميز الذي فرضه عليهم النازيون في معسكرات الاعتقال، ويبدو شخص يقف خلف كاميرا تصوير سينمائي وهو يصيح بهم “ابلعوا بطونكم!”.

"تصوير فيلم الهولوكوست" - "هل تساعد العنصرية في البيع؟" - "مرحباً أيها اليهود"
“تصوير فيلم الهولوكوست” – “هل تساعد العنصرية في البيع؟” – “مرحباً أيها اليهود” © شارلي إيبدو

تصدر المجلة منذ عام 1970 بمعدل عدد واحد في الأسبوع، أي 4 في الشهر، أي 48 في السنة، أي ما يقارب 2400 عدداً خلال السنوات الخمسين الماضية من عمرها، وبما أن العدد يحتوي 16 صفحة، فإن مجموع الصفحات التي نشرتها المجلة يقترب من 38400 صفحة. وإذا علمنا أنه لا تخلو صفحة واحدة من أي عدد من أعداد المجلة من رسم أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر في بعض الأحيان، علمنا أن مجموع الرسوم التي نشرتها المجلة طول حياتها لا يمكن أن ينقص عن 38400 رسماً.

“شارلي إيبدو”: “مجلة غير محايدة”

وهو ما يعني أن الحكم على المجلة بأنها “تستهدف المسلمين” خاطئ، فهي لا تستهدف المسلمين بل الدين والعقيدة الإسلاميتين، وهي أولاً لا “تستهدف”، بل تتهكم وتسخر وترسم صوراً وكاريكاتيرات. وهي إلى جانب ذلك تتهكم من الأديان جميعاً وليس من الدين الإسلامي حصراً، عدا عن أن اهتمام المجلة بدين من الأديان ينبع في الغالب الأعم من الجدل الذي يدور حوله في مناسبات وحوادث محددة بسياقاتها. هكذا مثلاً بدأت المجلة بتسليط الضوء على الدين الإسلامي مع انتشار العنف والهجمات الإرهابية التي يرتكبها مسلمون وخاصة منها تفجير برجي التجارة العالميين في نيويورك عام 2001. وتكفي جولة بسيطة في محرك البحث “غوغل” عن صور ورسومات “شارلي إيبدو” ليكتشف المرء أنها حصة الدين الإسلامي من سخرية وتهكم المجلة قليلة بالقياس مع أديان أخرى، كما أن حصة الأديان من السخرية قد لا تفوق حصة السياسيين ورجال الأعمال والمفكرين وغيرهم. “شارلي إيبدو” مجلة ساخرة معارضة ذات خط يساري ملحد وهي لا تتطرق إلى الأديان إلا حين يتدخل رجال دين في المجال العام فيحولون أنفسهم إلى سياسيين ويحولون عقيدتهم الدينية إلى رأي سياسي يمكن نقده والتهكم منه.

بحسب جيرار بيار رئيس التحرير في “شارلي إيبدو” فإن “بمجرد أن يتجاوز الدين المجال الخاص، يجب معاملته مثل أي رأي سياسي”، أما الرسام شارب، المنتمي إلى الحزب الشيوعي والذي قتل في الاعتداء الإرهابي عام 2015، فكان يذكّر منتقدي المجلة على الدوام بأنه “يعيش في ظل القانون الفرنسي، وليس في ظل القانون القرآني”.

ضحايا "شارلي إيبدو" على جدار في العاصمة باريس
ضحايا “شارلي إيبدو” على جدار في العاصمة باريس © أ ف ب

فماذا الذي تقوله النصوص القانونية الفرنسية عن حرية الصحافة في فرنسا؟ فيما يتعلق بالدين، فإن حرية التعبير بروح الدعابة لها السيادة على مشاعر أي طائفة من الطوائف والرمز الديني في فرنسا ليس محمياً بالقانون. كذلك، فإن القانون الفرنسي يحمي حرية الأفراد في التجديف الديني وحتى إهانة الرموز الدينية والسخرية منها، وذلك منذ صدور قانون الإعلام عام 1881 وحذفت منه الإشارة إلى التجديف الديني. وهذا هو الفرق بين القوانين والدساتير في غالبية الدول العربية والإسلامية التي تمنع فيها السخرية من الأديان وتعاقب بعقوبات شديدة للغاية على أي نقد للدين. هذا ليس حال فرنسا منذ ثورة عام 1789 التي دشنت نهاية السلطة الدينية على الدولة والمجتمع وهو ما تم تعزيزه فيما بعد وطوال ثلاثة قرون من خلال القوانين والأنظمة العامة.

أما الحدود الوحيدة التي يجب على الصحفيين (والمواطنين) في فرنسا عدم تجاوزها نهائياً فهي الإدلاء بتصريحات تنفي أو تشكك في وقوع المحرقة اليهودية أو تدعو إلى الكراهية أو إلى العنف في حق شخص ما أو فئة ما من الناس (ولا يعني هذا عدم انتقاد أو السخرية من عقيدة من العقائد بشكل عام) أو وصم جماعة معينة بسبب أصولها الدينية أو العرقية أو القومية أو الجنسية.

عودة إلى “الهولوكوست والدين اليهودي”

ويركز كثير من المعلقين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار على زعم أن “المجلة لا تتحدث عن المحرقة اليهودية” وغير ذلك من الملاحظات التي تتعلق بالهولوكوست تحديداً. وإذا تركنا جانباً السؤال عن الفائدة الفعلية المرجوة من السخرية من مجزرة رهيبة كهذه، ما زالت نارها حامية ولا يزال بعض من أفلتوا منها على قيد الحياة، فإن لنا أن نلاحظ أن “شارلي إيبدو” لم تسخر من أي مجزرة أخرى أو من أي تطهير عرقي آخر من هذا النوع والحجم على الإطلاق. لا من مجزرة الأرمن ولا السريان ولا الهنود الحمر ولا الإبادة الرواندية ولا غيرها. ورغم ذلك، فقد بينّا بالصور والرسومات كيف أن “شارلي إيبدو” “تطرّقت” كذلك إلى اليهود، وإلى المحرقة اليهودية تحديداً، في سخرية مريرة لاذعة لطالما تميّزت بها المجلة. فهي تقترب بذكاء من حساسيات الأفراد والجماعات وتقف على خيط دقيق يجعل عملها غاية في الصعوبة ومتطلباً لقدر معتبر من التأني والتفكير والبصيرة، عدا أن للمجلة خطها الإيديولوجي الخاص وخياراتها التحريرية والصحفية الخاصة التي تميزها، ولا يمكن والحال هذه مطالبتها برسم “ما يطلبه الجمهور” والخضوع لرغبات الناس ونزواتهم. “شارلي إيبدو” مجلة سيّدة لا تسعى إلى إرضاء متابعيها كيفما اتفق بقدر ما ترغب في التعبير عن رأي أصحابها، وهي تفعل تحت سلطة القانون الساري في البلاد ما يحلو لها هي وليس ما يحلو لقرائها المحتملين أو غير المحتملين. ولا يمكن بالتالي مطالبتها بالنزول عند جميع الأذواق وإشباع كل الأوهام أو الأحلام أو الرغبات الإيديولوجية لهذا الطرف أو ذاك، لهذه الفئة أو تلك، تحت طائلة اتهامها بـ”عدم الحياد” و”عدم المهنية”. بالعكس، لا تدعي “شارلي إيبدو” أبداً إنها مجلة محايدة، بل تقول علناً إنها معادية للعقائد الدينية ولسلطة رجال الدين ولليمين المتطرف العنصري وغيرها، وهي حرّة تماماً في فعل ذلك في بلد كفرنسا تحمي فيه القوانين الإعلام والصحافة والقول والتعبير بكافة الأشكال.

مدير النشر في صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية ورسام الكاريكاتير والكاتب لوران سوريسو المعروف باسم "ريس" في باريس 2019
مدير النشر في صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية ورسام الكاريكاتير والكاتب لوران سوريسو المعروف باسم “ريس” في باريس 2019 © أ ف ب

تبقى قضية واحدة في “ملف شارلي إيبدو” تثار من حين إلى آخر في فرنسا، وخاصة من جانب يساريين يرددون كذلك أن المجلة “تستهدف المسلمين”، وهي قضية رسام “شارلي إيبدو” موريس سينيه الذي اتهم بمعاداة السامية عام 2008. بدأت القضية في 2 تموز 2008 بعد أن كتب سينيه عموداً نُشر في “شارلي إيبدو” انتقد فيه نشاط جان ساركوزي نجل الرئيس المنتخب حديثاً في ذلك الوقت نيكولا ساركوزي. سخر سينيه بشكل خاص من إمكانية اعتناق جان ساركوزي اليهودية وقال:

“جان ساركوزي، الابن الجدير لوالده والمستشار العام لحزب “الاتحاد من أجل حركة شعبية”، خرج تقريباً في ظل التصفيق من محاكمته الجنائية بتهمة الهروب على دراجة نارية بعد صدم سيارة. بل إن النيابة طلبت الإفراج عنه! لا بد من القول إن من اشتكى عليه عربي! هذا ليس كل شيء: لقد أعلن للتو أنه يريد اعتناق الدين اليهودي قبل الزواج من خطيبته، اليهودية، وريثة مؤسسي شركة “دارتي”. سيقطع شوطا طويلاً في الحياة، هذا الصغير!”.

ومعادو السامية هم أولئك الذين يعتقدون مثلاً أن اليهود مسيطرون على العالم عبر صلاتهم ونفوذهم في جميع المؤسسات الدولية وغيرها ويسعون إلى الهيمنة، أو الذين يعتقدون أن اليهودي غني وبخيل أو فقير وغير متحضر، أو الذين يذهبون أبعد من ذلك بعد حين ينفون وقوع المحرقة اليهودية كلياً أو يزعمون أن اليهود ساهموا هم أنفسهم، بطريقة أو بأخرى، في الهولوكوست لتبرير إنشاء دولة إسرائيل، وغير ذلك الكثير من الأوهام التي كانت الدعاية النازية تبثها باستمرار لتحضير الألمان والعالم للكارثة الهائلة التي تمثلت بالرغبة في إبادة يهود العالم أينما كانوا والتي وضعت رغبتها المرعبة تلك موضع التنفيذ بإقامتها لمعسكرات اعتقال قتل فيها ملايين اليهود. وبالتالي، فقد اعتبر البعض أن السطرين الأخيرين من مقال “سينيه” مثيران للجدل لأنهما يلمحان إلى أن ابن ساركوزي باعتناقه اليهودية وبزواجه من “يهودية غنيّة” ستفتح له أبواب مستقبل كبير، في إشارة قد يفهم منها على أنها تروج من جديد لفكرة أن اليهود جميعاً أغنياء ويسيطرون على العالم.

بعد جدل حول هذا العمود في وسائل الإعلام الفرنسية، اتخذ مدير النشر في المجلة فيليب فال قراراً بإقالة “سينيه” في 15 حزيران 2008 ثم جرت محاكمته بدعوى رفعتها “الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية” بتهمة التحريض على الكراهية العنصرية. لكنه حصل على البراءة من تهمة معاداة السامية في 24 شباط 2009 حيث اعتبر القضاة أنه استخدم حقه في التهكم. وفي 30 تشرين الثاني 2010، أمرت المحكمة الابتدائية الكبرى في باريس ناشر مجلة “شارلي إيبدو” بدفع 40 ألف يورو كتعويض لـ”سينيه” بسبب إقالته التعسفية، ثم تم رفع مبلغ التعويض عام 2012 إلى 90 ألفاً.

هذه هي الحادثة الوحيدة التي تتم الإشارة إليها على الطالع والنازل للادعاء بأن حرية التعبير في فرنسا تقف عند حدود طائفة أو دين معين لا يمكن انتقاده، أو أن “شارلي إيبدو” نفسها تمارس رقابة على حرية التعبير وأنها “غير محايدة”، أو أن الدين اليهودي غير موجود على رادار السخرية والتهكم اللاذع للمجلة. لكن هذا الكلام كله ينسى أن من حق أي أحد في فرنسا أن يرفع دعوى ويوكل محامياً ويحاول تحصيل ما يعتبره حقاً، وهو بالضبط ما فعله “سينيه” الذي رد له اعتباره وتم تعويضه وبرأه القضاء من تهمة معاداة السامية. ومن المعروف أن منظمات أهلية إسلامية كانت قد رفعت في السابق أيضاً دعاوى على “شارلي إيبدو” بتهم كالكراهية أو الحض على العنصرية.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *