عمران سلمان – الحرة – 28 فبراير 2020/
في السنوات الأخيرة ظهرت كتابات كثيرة، تراوحت بين المقالات والدراسات والبحوث، تقترح أن أحد أفضل الحلول لمواجهة أفكار وعقائد التيارات الإسلامية المتطرفة والجهادية يكمن في تشجيع الإقبال على التصوف. وفيما يبدو أنه اكتشاف ثمين راحت بعض مراكز الأبحاث الغربية تبالغ في تقديم وصفات جذابة لما يمكن أن تقدمه المدرسة الصوفية من بدائل لعقائد التطرف.
لكن لم يتحدث أحد عن كيف يمكن أن يحدث ذلك بصورة عملية، وعما إذا كان ممكنا أن يحدث في الأساس، على افتراض أن المقاربة نفسها صحيحة.
مواجهة التطرف بالإصلاح
إن مواجهة أفكار التطرف الديني في البيئة الإسلامية ليست موضوعا جديدا، فقد كتب عنه الكثيرون وتحدثوا عن ضرورة الإصلاح، منذ ظهور الجماعات التكفيرية والمسلحة في مصر خلال السبعينيات وما تلاه من عقود. لكن غالبية الحكومات العربية، إما لعدم رغبتها أو عدم قدرتها، لم تأخذ ما قدم على محمل الجد. وباستثناء محاولات خجولة هنا وهناك، فقد بقي التعليم والإعلام والخطاب الديني العام، محتفظا بوظيفته في دورة التطرف وتهيئة المناخات الملائمة لانتشاره وترسيخه.الصوفية هي من بين أكثر الإسهامات أهمية التي قدمها العرب والمسلمون للجنس البشري
ولم تنجح دعوات الإصلاح والضغوط التي مورست في هذا الاتجاه، في دفع أي حكومة عربية للنظر بشكل جدي في تغيير المناهج أو لجم الخطاب الديني المتطرف.
وجل المبادرات التي قامت بها مؤسسات دينية، مثل الأزهر وغيره، ظلت على مستوى القشور والتغيير اللفظي. فما دام التلميذ يدرس ويلقن، على سبيل المثال، بأن دينه هو الأفضل ويعلو على بقية الأديان الأخرى (وليس مجرد دين آخر أو مختلف) وأن قيمة الفرد مرتبطة بانتمائه الديني (وليس بمقدار نفعه لغيره من البشر والإنسانية)، فإن كل حديث عن إصلاح يتحول إلى محاولة للتمويه وسد الذرائع أمام المطالب الحقيقية.
التصوف تجربة فردية
إن التصوف، وهو اتجاه روحاني، لم يكن ذات يوم ممارسة جماهيرية على أي نطاق. صحيح أن الملايين من المسلمين والعرب عبر التاريخ كانوا ولا يزالون يجلون ويحترمون الرموز الصوفية ويعتزون بمكانتها، لكن عدد المتصوفة أو أتباع الطرق الصوفية من بين هؤلاء كان محدودا قياسا بعدد السكان في أية بقعة وجد فيها.
ولذلك أسباب مفهومة ومعروفة. فالتصوف ليس مذهبا دينيا، وأتباعه لا يسعون للتبشير به أو جلب أنصار جدد. ففي معظم الطرق الصوفية، يتعين على الشخص أو المريد الجديد أن يسعى بنفسه ويظهر الاستعداد اللازم للانضمام إلى الطريقة. ولكي يحقق شيئا ذا قيمة، عليه أن يبذل جهدا ويكرس وقتا لذلك.
والأمر الآخر هو أن التصوف والروحانية بشكل عام، تركز على التجربة الشخصية للإنسان في علاقته مع المقدس أو الإلهي، وهي تؤمن بأن لكل إنسان طريقه الخاص في هذا المجال. على عكس المدارس الدينية التي تكتفي بوجود تجربة واحدة وعلى الجميع اتباعها. وبهذا المعنى فإن التصوف هو تجربة فردية وليست جماعية.
ومن هنا كان يصعب على الدوام تحويل التصوف والمتصوفة إلى حركة جماهيرية.
والتصوف بما أنه حركة روحانية، فإنه يدعو أتباعه للتركيز على داخل الإنسان بدلا من خارجه، وأن على الإنسان أن يصلح نفسه أولا، قبل أن يتوجه إلى الآخرين. ولما كان إصلاح النفس يستلزم معرفتها في المقام الأول، فإن العملية برمتها تحتاج إلى وقت قد يستغرق عمر الإنسان نفسه.
لهذا يقل اهتمام المتصوفة عادة بالانشغالات العامة، ولا سيما الانخراط في السياسة، وإن كانوا يبدون رأيهم فيها إن طلب منهم ذلك.
صحيح أن بعض شيوخ الصوفية شاركوا مباشرة وقادوا حركات مقاومة الاستعمار والتدخل الخارجي، كما في بلاد المغرب العربي مثلا، إلا أن ذلك كان مرتبطا بظروف تلك البلاد، وقد فعلوا ذلك بصفتهم زعماء محليين وليس بصفتهم الصوفية.
الاتجاهات الروحانية
والحال أن مواجهة أفكار التطرف، ليست لغزا أو أحجية. والاستعانة بالتصوف هنا قد لا يكون أكثر من محاولة سياسية لإعفاء الحكومات من واجباتها، وفي الغالب هي لن تحقق شيئا كبيرا.التصوف ليس مذهبا دينيا، وأتباعه لا يسعون للتبشير به أو جلب أنصار جدد
وهذا لا يتعارض مع الترحيب والاهتمام الذي حظي به التصوف في السنوات الماضية في بعض الدول العربية، فهو أمر جيد ويستحق الإشادة، وكان يجب أن يحدث منذ زمن بعيد. لكنه يفترض أن يكون في سياق تشجيع الانفتاح على المدارس الروحانية المختلفة في المنطقة والعالم، وليس في إطار توظيف التصوف لخدمة أغراض سياسية.
فالاتجاهات الروحانية اليوم أصبحت ترندا عالميا ولم تعد محصورة في بقاع جغرافية محددة. والناس تقبل عليها بحثا عن الجمال الروحي والسلام الداخلي والحاجة للتعايش بانسجام بين الإنسان ونفسه وبينه وبين العالم من حوله. هذا السلام الذي حولته الجماعات الجهادية والمتطرفة وتلك التي تستخدم الدين لأغراض سياسية إلى كابوس فعلي.
والإرث الصوفي يمكنه أن يساعد المسلمين، أكثر من غيرهم على ولوج الاتجاهات الروحانية الحديثة. فالصوفية، وخاصة في جانبها الشامل والإنساني، العابر للأديان والمذاهب والأعراق والثقافات، كما تتجلى في أقوال وكتابات وحياة الحلاج وأبي سعيد بن أبي الخير وجلال الدين الرومي وابن عربي وغيرهم، هي من بين أكثر الإسهامات أهمية التي قدمها العرب والمسلمون للجنس البشري.