عمران سلمان – الحرة – 3 أبريل 2020/
حمى وباء كورونا أنتجت معها، من بين أمور أخرى، حمى التبشير بقرب سقوط الولايات المتحدة الأميركية وصعود الصين وروسيا، في مشهد يذكر بأولئك الراكضين إلى عرض البحر لالتقاط ما تسرب من سفينة ألقت بجزء من حمولتها لتخفيف الوزن، فيما هم يظنون بأن السفينة قد غرقت.
مبشرون كثر
ولعل المبشرين هنا ليسوا واحدا، بل على المرء أن يميز، ما بين المدمنين على انتقاد الولايات المتحدة في كل شاردة وواردة، وبين بقايا اليسار الذي لم ينضج ولم يتعاف حتى الآن من “الرضة” النفسية التي أصابته جراء انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فبات يركض وراء كل سراب خادع، يحسبه ماء، ومع هؤلاء يأتي الفوضويون والعبثيون ومحترفو معارضة كل شيء!، وما بين آخرين تزعجهم بعض السياسات الخارجية الأميركية (وقد يكونوا محقين في ذلك) وبعضهم يزعجه أكثر أن تتمتع دولة واحدة بكل هذا الثراء والقوة والهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية.
هذه الحمى التي تبشر بقرب سقوط الولايات المتحدة، هي ليست أكثر من تمنيات
أقول يوجد خليط، هو في الحالة الطبيعية غير متجانس، ويختلف حول العديد من القضايا، لكنه إذا تعلق الأمر بالولايات المتحدة فإنه يشيح بنظره عن تلك الخلافات ويقف كالبنيان المرصوص، يجتر كل ما تلقيه أقلام بعض المأزومين والهامشيين في الدول الغربية، من الذين وجدوا أنفسهم في حالة تصادم مع التيار الرئيسي. يستوي في ذلك أقصى اليسار مع أقصى اليمين.
مخاض النظام الجديد
بالطبع الحديث عن انتهاء القطبية الواحدة لم يهدأ في العالم منذ انتهاء الحرب الباردة. وهناك ما يكفي لملء مكتبة بأكملها من المقالات والكتب التي تبشر بكافة السيناريوهات، سواء صعود ما يعرف بالقوى الجديدة كالصين والهند واليابان والبرازيل وغيرها، أو نشوء نظام جديد يكون متعدد الأقطاب تتشارك فيه الدول في تحمل كافة الالتزامات والمسؤوليات.
لكن أي من هذه السيناريوهات لم يثبت حتى الآن أنه قابل للحياة أو التحقق بصورة أكيدة وسريعة، وعلى الأقل ليس قبل عام 2050، وفق أفضل التقديرات.
فالاقتصاد الأميركي لا يزال قويا، والنظام المالي الأميركي لا يزال مهيمنا وضابطا لحركة تنقل الأموال وتداولها حول العالم. والناتج الإجمالي الأميركي هو الأعلى ويتقدم بصورة كبيرة عن باقي الدول. وبلغة الأرقام فهو يبلغ حاليا أكثر من 19 تريليون دولار في مقابل حوالي 12 تريليون دولار للصين. أما باقي الدول مثل اليابان (قرابة خمسة تريليون) وألمانيا (تريليونين ونصف) والهند (تريليونين ونصف) والبرازيل (تريليونين) وروسيا (تريليون ونصف)، فإنها بحاجة إلى أشواط طويلة كي تثبت نفسها كقوة عالمية.
ماذا يعني الفارق في الناتج الإجمالي؟ إنه يعني الفارق في القدرة الفعلية على تحمل الأعباء والتكاليف، في كل ما يتصل بشؤون العالم، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية.
لا بديل عن أميركا
الصين لا يمكنها، على الأقل في المستقبل المنظور، أن تأخذ مكان الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، لأسباب ليست متعلقة فقط بالاقتصاد، وإنما لأسباب أخرى كثيرة بينها الجغرافيا والثقافة واللغة والنظام السياسي والتعليمي وحجم الابتكارات والاختراعات.
فالصين دولة رأسمالية صناعية كبيرة، هذه حقيقة، ولها وجود ومصالح في العديد من دول العالم. لكن مؤهلات القوة العالمية تتطلب ما هو أكثر من ذلك.
وحتى هؤلاء الذين يمنون أنفسهم بأن تأخذ الصين مكان الولايات المتحدة، هم غير مستعدين للتعامل معها على هذا الأساس. فلا أحد منهم يريد أن يعيش في ظل النظام الصيني القمعي، ولا أحد منهم يطلب اللجوء أو الهجرة إلى الصين، ولا أحد منهم يرسل أبناءه إلى التعليم هناك، ولا أحد منهم، إن كان مقتدرا، ينشد العلاج في الصين. وبالطبع لا أحد منهم يسعى لتعلم اللغة الصينية أو يشاهد إعلاما صينيا!
الصين دولة رأسمالية صناعية كبيرة، ولها وجود ومصالح في العديد من دول العالم. لكن مؤهلات القوة العالمية تتطلب ما هو أكثر من ذلك
أما روسيا فرغم كل “العنتريات” و”العفرتات” التي تقوم بها هي أضعف اقتصادا ونظاما وقدرات بشرية وعلمية وعسكرية من أن تنافس الولايات المتحدة.
الديكتاتورية والديمقراطية
إذا، هذه الحمى التي تبشر بقرب سقوط الولايات المتحدة، هي ليست أكثر من تمنيات (ولا مشكلة في ذلك) لا يملك أصحابها أنفسهم الإمكانية أو الرغبة الفعلية في تحقيقها.
لكن بالطبع لا يعني ذلك عدم توجيه الانتقادات لحكومات الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية في الطريقة التي تعاملت بها مع وباء كورونا. الواقع أن ثمة الكثير من الانتقادات التي وجهت ولا تزال توجه لهذه الحكومات. سواء تعلق الأمر في التأخر في تقدير خطورة الموقف واتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة للحفاظ على أرواح الناس، أو في انتهاج مقاربة تؤكد على عالمية الوباء وضرورة العمل مع جميع الدول لمواجهته.
أما أن يستخلص أحد ما من ذلك قولا يفيد بأن النظم الديكتاتورية أو القمعية هي الأفضل من النظم الديمقراطية، لأن تعاملها كان مختلفا مع فيروس كورونا، فهذا لا يندرج فقط في خانة الاستنتاجات الخاطئة، ولكنه أيضا لا يفيد أولئك الباحثين عن العدالة الاجتماعية أو المنزعجين من الممارسات السيئة لبعض الأنظمة الديمقراطية، لأنه يشبه حال الإنسان الذي يقرر قطع ذراعه، فقط لأن أصبعه كانت تؤلمه.