عمران سلمان – الحرة – 10 يوليو 2020/
لعله أمر مؤسف أن هناك من يحاول باستمرار أن يختطف الله أو يصادره لحسابه، أو ينطق باسمه أو يعتبر نفسه مالكا حصريا له أو يؤسس لمفهوم الرحمة الإلهية المحدودة بجماعة من البشر أو المشروطة باعتقادات معينة.
أقول إنه أمر مؤسف، لأنه لا أحد يملك هذا الحق، مهما كان الدين الذي يتبعه أو الاعتقاد الذي يؤمن به، الحقيقة أن الله لا يمكن أن يكون مسؤولا عن هذه الأديان والاعتقادات، وعلاقته بها لا تخرج عن أو تتعدى إطار أنها هي من تنسب نفسها إلى الله، وليس العكس. ولا يوجد دليل يخالف ذلك من خارج دائرة الدين أو الاعتقاد نفسه. أي لا يوجد دليل مستقل.
استحالة المعرفة
إن مشكلة الإنسان ليست مع الله ولم تكن يوما كذلك، ولكنها مع نفسه. إن الإنسان، بصورة عامة، لا يعرف الله فكيف تكون له مشكلة مع ما لا يعرفه. هو يفترض بأنه يعرف الله ولكن هذا مجرد افتراض. أما الحقيقة فإن ما يعرفه هو تصوره عن الله. وحتى هذا التصور هو لم يخلقه بنفسه، وإنما تكوّن عنده مما سمعه أو قرأه عند الآخرين وطوره فيما بعد وفق مقاسه وما تسمح به مخيلته. بمعنى آخر فإن ما يعرفه معظم الناس عن الله هو ليس نتاج تجربتهم الشخصية، وإنما نتاج احتكاكهم بغيرهم من البشر.
الطريق الوحيد، إذا كان ثمة طريق، لإدراك الله (وليس معرفته)، لمن أراد، هو الطريق الفردي أو طريق التجربة الشخصية
وهذه المعرفة للأسف عادة ما تحل محل التجربة الشخصية وتتماهى معها، لدرجة أن الإنسان يصدق نفسه وهو يتحدث عن الله، من دون أن يدري بأن ما يقوله ليس سوى تصورات وأفكار أخذها من آخرين، أخذوها بدورهم ممن سبقهم وهكذا.
أقول ذلك، لأن معرفة الله تستحيل من خلال استخدام حواسنا، بما في ذلك العقل. الحواس مفيدة ونافعة عندما يتعلق الأمر بمظاهر الوجود المادي، ولكنها محدودة عندما يتعلق الأمر بما هو خارج هذه المظاهر.
التجربة الشخصية
هل سبق لك أن تمكنت من وضع ما تحسه أو تشعر به في كلمات أو نقلتها لشخص آخر بصورة استطاع معها أن يشاركك نفس الشعور أو الإحساس في الوقت نفسه؟
وحتى عندما تظن بأن ذلك يحدث، وهو لا يحدث، فالواقع أنك لن تكون متأكدا من أن ما يشعر به الشخص الآخر هو نفس الشعور الذي حدث لك. فلا يوجد لديك ما يمكن أن تقيس به أو عليه.
مسألة الشعور، مثل مسألة حديث القلب، مثل الحديث عن الله. الإنسان لا يتمكن من الوصول لها إلا من خلال تجربته الشخصية. وأقصد بتجربته الشخصية، ما يحدث له داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس وحالات ذوقية، إذا جاز التعبير، وليس شيئا يأتي إليه من الخارج. وحتى في هذه الحالة فإنه يعجز عن وضع ذلك كله في كلمات أو نقلها إلى غيره من البشر. لأن اللغة محدودة وعاجزة. كل ما يستطيع الآخرون أن يروه منه، هو انعكاس تلك التجربة على هيئة الإنسان أو حديثه أو أفعاله أو حضوره. أو كما في القول المأثور “اجعل الله واقعا يجعلك حقيقة”.
اعرف نفسك
ولهذا السبب قلت إن مشكلة الإنسان ليست مع الله ولكن مع نفسه. فنفس الإنسان هي أقرب إليه من جميع الأشياء. وإذا لم يعرف الإنسان نفسه فمن المستحيل أن يعرف أي شيء آخر. ومعرفة نفس الإنسان تقربه من معرفة الله، بل هي مفتاح هذه المعرفة، كما قيل في الأثر “من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
مسألة الشعور، مثل مسألة حديث القلب، مثل الحديث عن الله. الإنسان لا يتمكن من الوصول لها إلا من خلال تجربته الشخصية
طبعا كلمة “المعرفة” هنا هي مجازية، لأنه لا يمكن معرفة الله. ولكن يمكن إدراك آثاره أو الشعور بها. وسبب عدم المعرفة هو أن الله لا يمكن أن يكون موضوعا للمعرفة، كما نفعل مع سائر الأشياء. فهو ليس في متناول حواسنا أو إدراكاتنا المادية. ولذلك ليس بإمكاننا دراسته أو تحليله أو استخلاص أي شيء حقيقي بشأنه.
كل ما يفعله الإنسان، بما في ذلك، النقاشات العقيمة بشأن وجود الله أو عدمه، هي مجرد “ضوضاء” ذهنية، وفي الغالب هي نقاشات عن التصورات البشرية لله، وليس عن الله نفسه.
القطرة والمحيط
الطريق الوحيد، إذا كان ثمة طريق، لإدراك الله (وليس معرفته)، لمن أراد، هو الطريق الفردي أو طريق التجربة الشخصية، سواء تلك التي تدعو إليها المدارس الروحانية، بما في ذلك الصوفية، أو عن طريق التطور الفردي الحر غير المرتبط بأية تعاليم أو مدارس.
فالإنسان لن يعرف الله مهما قرأ من كتب أو استمع إلى خطب أو درس على يد أي معلم. فهذه المجالات تعطي الإنسان معلومات قد تساعده، لكنها لا تعطيه الإدراك أو المعرفة الروحية. ويظل أفضلها هو ذاك الذي يشير إلينا بالطريق، لكنه لا يفرض الطريق علينا، بل يدعنا نسلكه بأنفسنا، من دون وصاية أو تحكم.
وحين نسلك الطريق فنحن في الواقع نبدأ في تشييد تجربتنا الشخصية، ونبدأ في رحلة التعرف على أنفسنا، وهي رحلة قد تقودنا إلى إدراك الله في أنفسنا. وإذا لم ندركه في أنفسنا فلا يمكن أن ندركه في أي مكان آخر. وحتى حين ندركه فلا يمكن أن ندعي تمثيله، لأنه كيف يمكن لقطرة أن تدعي أنها تمثل المحيط!