بقلم/ عمران سلمان – نقطة ومن أول السطر – 25 نوفمبر 2023/
الخطاب المتطرف ينتشر للأسف في المنطقة كالنار في الهشيم مستغلا الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، فيما تتحول حركة حماس إلى نموذج “مقاوم” بالنسبة للكثير من العرب والمسلمين.
وفي حين لا تملك الحكومات العربية إمكانية الضغط على إسرائيل لوقف هجومها، ولا تملك أيضا الضغط على حركة حماس للتوقف عن القتال وإلقاء السلاح، فإن بعضها يبدو كمن يراقب كرة الثلج وهي تكبر أمامه وتكاد تدهسه من فرط قلة حيلته وقدرته على الفعل والحركة.
بالطبع ليست هذه المرة الأولى التي تعيش فيها المنطقة وضعا صعبا ومتأزما مثل الذي نشهده اليوم. ففي العقود القليلة الماضية شهدنا أحداثا لا تقل جسامة مثل حرب تحرير الكويت وحربي العراق وأفغانستان وحرب لبنان وإسرائيل وثورات “الربيع العربي” وجميعها تسببت في هز المجتمعات العربية في العمق وضرب الاستقرار فيها .. بل أن الخارطة العربية تغيرت كثيرا منذ التسعينات وحتى اليوم، فقد أطيح بأنظمة واستولت جماعات مسلحة وميليشيات زمام الأمور في مناطق أو أجزاء من بلدان عربية، وزاد عدد الدول الفاشلة وتلك التي لا يوجد أمل في إصلاحها.
لكن الجديد هذه المرة أن خطاب التطرف الذي كاد أن ينحسر بفعل البشاعات التي ارتكبها تنظيم داعش وتراجع تنظيمات الإخوان المسلمين وعملية الإصلاح التي جرت في السعودية وأنهت رسميا الحقبة التي سميت “بالصحوة الإسلامية”، قد استعاد عافيته أخيرا من بوابة غزة.
هذا الخطاب استعاد ورمم رموزه ومصطلحاته ومفاهيمه إلى حد كبير. ابتداء من تمجيد “الجهاد” و”المجاهدين” والانتصار لخيار القوة والعنف والسلاح وليس انتهاء بشيطنة الغرب وكل ما له علاقة به، وبالطبع من دون أن يفوته استحضار الكلمات المفضلة هنا وهي “الإمبريالية” و”الرأسمالية” و”الصهيونية” و”الماسونية” .. الخ.
وفي العديد من العواصم ظهرت اللحمة واضحة بين نشطاء الإسلام السياسي واليسار الفوضوي ومناهضي العولمة ومثيري الشغب والفوضيين.
وفي بعص الدول العربية انخرطت مؤسسات دينية كبرى مثل الأزهر وغيره في الترويج للخطاب المتطرف المعادي للغرب على نحو غير مسبوق.
وفي بعض المجتمعات العربية صدرت فتاوى ودعوات لمقاطعة البضائع الغربية وتلك ذات الصلة بإسرائيل في إطار ما سمي بـ”الجهاد المالي” .. بالطبع الحديث يدور هنا عن الأطعمة والمستلزمات فقط، إذ لا أحد يجرؤ على مقاطعة الهواتف والكمبيوترات والأجهزة الإلكترونية رغم أنها غربية أيضا!
وفي حين تصعب معرفة حجم الضرر الناتج عن هذه المقاطعات في حال حدوثها، بالنظر إلى أن معظم الاقتصادات العربية هي هشة وضعيفة وغالبية السكان غير قادرة أصلا على شراء المنتجات الأجنبية بسبب التضخم وغلاء أسعارها، فضلا عن غياب المنتج المحلي أو بسبب رداءته،
فإن المقاطعات هي عادة عقوبة تفرضها الدول الغربية وليس العكس، فكما لو أن المقاطعين إنما يعاقبون أنفسهم بأنفسهم ليس إلا!
بل أن البعض تحمس أكثر ودعا الدول العربية المنتجة للنفط إلى وقف تصدير نفطها إلى الدول الغربية الداعمة أو المؤيدة لإسرائيل. مع أن معظم نفط المنطقة يذهب في الواقع شرقا، إلى الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها، وليس إلى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة.
الأمر الأكثر إثارة هو أن تصعيد العداء في المنطقة العربية لكل ما هو غربي، لا يبدو بريئا، فهناك من يسعى إلى جعل هذا العداء مستحكما، لغايات وأهداف لا علاقة لها بما يجري في غزة أو حتى بالموقف من القضية الفلسطينية.
والرسالة هنا واضحة. فإذا جرت شيطنة المجتمعات الغربية وقيمها، فإن النماذج المتبقية هي إما النموذج المستبد كما في روسيا والصين أو نموذج التنظيمات والدول المتطرفة والمارقة مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا ومن هي على شاكلتها. ولذلك ليس من باب الصدفة أننا بدأنا نشهد إشادات وإن بدت خجولة بالنظام الديني في إيران وكذلك نظام حماس في غزة، وسوف نرى بعد قليل من يشيد بنظام طالبان في أفغانستان!
أقول ذلك رغم أن العداء للنموذج الغربي أو الدعوة للتصادم مع الغرب ليست وليدة الأحداث الجارية حاليا في غزة، ولكنها تقع في صلب السرديات الثلاث المهيمنة على الذهنية والنفسية السائدة في المنطقة، ألا وهي اليسارية والقومية والإسلامية.
وهذه السرديات هي التي جعلت من المآسي والويلات التي تعيشها مجتمعاتنا أمرا ممكنا.. وما يجمع بينها، إضافة إلى قدرتها التدميرية الهائلة، أنها تنتمي إلى الماضي أو إلى حقبة سابقة وسياق تاريخي مختلف لم يعد موجودا اليوم.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى أين يقود الخطاب المتطرف المنطقة ومجتمعاتها؟ والإجابة ليست سرا أو تخمينا وهي المزيد والمزيد مما نعيشه اليوم.. سواء ما يحدث في غزة أو ما حدث (ويحدث) في سورية واليمن والعراق وليبيا والسودان وغيرها. وهناك دول أخرى مرشحة للانضمام إلى القائمة. وهناك احتمال لتعميم تجربة حركة حماس أو ظهور تنظيمات متطرفة جديدة. وحتى في حال عدم حدوث ذلك يكفي أن الضغوط الشديدة التي تمارس على بعض الحكومات العربية اليوم سوف تدفعها إلى تخفيف الضغوط على المتشددين والفكر المتشدد عبر منحه مساحات جديدة للعمل والنشاط، فضلا عن الاعتراف بهذا التيار والتعامل معه بوصفه “نموذجا قائدا” مما يغذي دورة الشر التي تمسك بتلابيب حكومات وشعوب المنطقة منذ أمد ليس بالقريب.