خارج سياق العصر

بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 20 يناير 2023/

يتغير الواقع وتتغير معطياته ومع ذلك تظل بعض المفاهيم والتصورات عالقة في فضاء التداول. أحد الأمثلة على ذلك هو الحديث الذي لا ينقطع عن النظام الدولي الجديد والرغبة الجامحة نحو نظام متعدد الأقطاب.

والمقصود بتعدد الأقطاب هو أن الولايات المتحدة لم تعد تحتل المكانة الأولى في العالم وأن هناك دول أخرى إما تنافسها أو تتقدم عليها! 

مثل هذا الحديث يخرج عادة من موسكو ثم يتردد صداه في بعض العواصم العربية ولا سيما تلك المسكونة بنموذج “المستبد” الذي يطعم شعبه الشعارات، ولكنه لا ينسى أن يقدم من حين لآخر بعض الخدمات وبعض المزايا والفوائد التي تجعل من الاستبداد أهون الشرين.

والمحسوبون على هذا النموذج تحديدا هم الأكثر استهواء للحديث عن تعدد الأقطاب لأنهم الأزيد عداء للقيم الليبرالية التي تمثلها الولايات المتحدة والعالم الغربي.

هم يتمنون أن ترتفع النماذج المستبدة في العالم مثل النموذج الصيني أو الروسي إلى مستوى المنافسة مع الولايات المتحدة كي يقال بأن هناك تعدد في الأقطاب وتعدد في النماذج ما لا يستوي معه أن يصار إلى اتباع نموذج واحد أو الاحتكام إلى نموذج واحد.

إنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بحجم الضغوط التي تشكلها القيم الليبرالية عليهم وعلى أنظمتهم ومع ذلك لا يستطيعون المجاهرة بتفضيلهم للاستبداد. لذلك يلجؤون إلى الحديث عن تعدد الأقطاب وعن تراجع الدور الأميركي ومكانة الولايات المتحدة في العالم. وهم يعلمون بأن كل هذا الحديث هو من نوع التفكير بالتمني وأنه لا أساس له من الصحة وأن وظيفته الأساسية هي تخفيف الضغوط والتنفيس عن الغضب المكتوم ليس إلا، ولا بأس أيضا من تمرير ذلك إلى الشعوب لعل وعسى أن تقتنع به هي الأخرى. 
 
لكن من سوء حظ هؤلاء أن نماذج الاستبداد لا تستطيع أن تنافس النموذج الليبرالي، حتى الآن على الأقل.

نعم هناك منافسة اقتصادية بين الولايات المتحدة والصين ولكنها ليست منافسة متكافئة (إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة يبلغ حوالي 20 تريليون دولار بينما ناتج الصين لا يزيد على 14 تريليون دولار، في حين يبلغ ناتج روسيا رقما متواضعا وهو قرابة 1.5 تريليون دولار وهي تأتي في المرتبة 11 عالميا).

وصحيح أيضا أن هناك منافسة عسكرية من نوع ما مع روسيا والصين ولكن هذه المنافسة أيضا غير متكافئة، باستثناء حيازة السلاح النووي. 

ففي حين بلغت ميزانية الدفاع الأميركية لهذا العام 778 مليار دولار (وهي أكبر من موازنات الدفاع في كل من الصين والهند وروسيا وبريطانيا والسعودية وألمانيا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية مجتمعة)، فإن ميزانية الدفاع الصينية بلغت 252 مليار دولار وروسيا حوالي 61 مليار دولار.

أما إذا تعلق الأمر بالنظام السياسي فلا توجد منافسة من الأساس حيث إن النموذج الروسي أو الصيني السياسي مفلس ولا يملك أية جاذبية ولديه القليل الذي يستطيع تقديمه للعالم. كذلك لا توجد منافسة في الجانب الأهم وهو الاختراع والابتكار.

فخلال المائة عام الماضية على الأقل فإن كل اختراع أو اكتشاف مهم للبشرية حدث إما في الولايات المتحدة أو أوروبا، وفي العقود الأخيرة أصبحت الولايات المتحدة هي موطن الاختراعات الحديثة بصورة رئيسية.

هذا الكلام أعلاه لا ينفي بالطبع أن النظام الليبرالي الغربي يتعرض لتحديات من حين لآخر وبعضها خطير جدا. لكن هذه التحديات في معظمها تأتي من الداخل وليس من الخارج.

التوجهات الشعبوية أحد هذه التحديات وهناك غيرها، لكن يظل التحدي الأبرز هو ذاك الذي يأتي من التطور العلمي والتكنولوجي وبالتحديد من الذكاء الاصطناعي وعلم البايوتكنولوجي كما يرى (وبعبقرية مذهلة) أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس يوفال هراري.

فالإنسان وفق العلوم الحديثة هو عبارة عن مجموعة من اللوغاريتمات البايوكيميائية والعقل مكون من أنظمة لوغاريتمية. وأن هذه الأنظمة يمكن التأثير عليها من الخارج واختراقها عبر تطوير لوغاريتمات معينة وبصورة قد تؤثر على خياراتها، كما يحدث اليوم في الحقل الطبي وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

وهذا التطور سوف يؤدي إلى إحداث تغير جوهري على مفهوم الفرد ودوره في المجتمع. والمعلوم أن النظام الليبرالي يقوم على أساس الفرد الذي هو مصدر جميع السلطات وعلى الإرادة الحرة للأفراد. إذ سوف يمكن الذكاء الاصطناعي الأجهزة والبرمجيات على مساعدة الإنسان على اتخاذ الكثير من قراراته. وإلى الدرجة التي ستكون فيها شريكة للإنسان في ذلك. فهي سوف تعرف تفضيلاته وميوله ورغباته واتجاهاته ربما أكثر منه نفسه. وبالتالي سوف تتدخل بطريقة غير مباشرة لتوجيه الإنسان وحسم خياراته.

وهذا سوف يطرح إشكاليات كبيرة للنظام الليبرالي سواء تلك المتعلقة بالإرادة أو الحرية أو المسؤولية. وهذا موضوع كبير وشائك بطبيعة الحال، لكن ما يمكن قوله هنا هو أن التطورات العلمية أو ما يمكن تسميتها بعلوم الحياة تحمل للجميع تحديات جديدة ومختلفة عن تلك التي ألفناها حتى اليوم، وبحيث يغدو الحديث عن تعدد الأقطاب وما شابه حديث منتهي الصلاحية ولا معنى له.  

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *