بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 17 مارس 2022/
في عالم اليوم توجد حضارة واحدة فقط وهي الحضارة الغربية. وأقول الغربية اصطلاحا لأنها في الواقع حضارة إنسانية. فهي نشأت في الغرب لكنها سرعان ما اتخذت طابعا عالميا وإنسانيا شاملا. ونحن نشهد اليوم إن جاز التعبير “نكهات” مختلفة لهذه الحضارة. فهناك النكهة الأوروبية باختلاف دولها وهناك النكهة الأميركية والكندية والأسترالية واليابانية والإسرائيلية.. الخ.
جميع هذه الدول تنضوي تحت لواء الحضارة الغربية لكن مع احتفاظها بخصائصها ومميزاتها الثقافية والاجتماعية وتكوينها العرقي وانتمائها الجغرافي. ولهذه الحضارة عمودان. عمود العلم وما يتصل بذلك من أبنية عقلية ومعرفية وطرائق في التنظيم والعمل والتكوين. والعمود الآخر هو النظام الديمقراطي وما يتصل به من دساتير ومؤسسات مدنية تقوم على أساس العلمانية وحكم القانون وفصل السلطات وتأمين الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.. الخ.
الاقتراب أو الابتعاد عن هذه الحضارة هو مؤشر على نوعية الصلة التي تجمعنا بالعصر وقيمه. بينما تعكس مساهمتنا في هذه الحضارة أو عدمها مقدار النجاح أو الفشل في انجاز التقدم والنهضة.
الذين يعادون الحضارة الغربية والذين يسعون للصدام معها هم في الغالب نوعان، وكلاهما ينتمي للماضي، نوع يتصور أن بإمكانه إنشاء حضارة مغايرة، إما على أساس ديني أو قومي، وهذا نوع متوهم لأن الزمن قد تخطى ذلك ولم يعد ثمة معنى أو إمكانية واقعية وربما حاجة أيضا لهذا الأمر.
والنوع الآخر يفضل النموذج الاستبدادي والديكتاتوري القائم على حصر القوة والنفوذ في شخص أو مجموعة صغيرة من الأشخاص. وقد رأينا كيف أن هذا النوع الثاني بالذات، لا ينتج حضارة كما يدعي، بل هو سرعان ما يدمر كل مظاهر الحضارة القائمة ويسارع إلى الحروب والكوارث وتفتيت الدول وتدمير المجتمعات.
إن مكمن القوة في الحضارة الغربية لا يكمن في السلاح أو الثروة المادية كما يعتقد، رغم أهمية ذلك بالطبع، ولكن في أن عناصر هذه الحضارة محايدة، فهي ليست دينية أو أيديولوجية أو قومية. هي تقوم على العلم والاقتصاد والحرية وكلها قيم محايدة، ويمكن تبنيها في أي مجتمع من دون أن يخلق ذلك أية مشكلات أو تناقضات.
إن التناقض الوهمي الذي يقيمه الدعاة الأيديولوجيون أو الدينيون بين الحضارة الغربية وبين الثقافات والأديان الخاصة بالمجتمعات المحلية، سببه الحقيقي هو السياسة والرغبة في إبقاء السيطرة على هذه المجتمعات.
لكن بالمقابل يدرك هؤلاء أنه في عالم اليوم يصعب تحقيق تقدم اقتصادي أو تكنولوجي أو علمي حقيقي من خلال إدارة الظهر للحضارة الغربية أو التصادم معها. لذلك يلجؤون إلى الانتقائية، فيأخذون ما يقولون إنه يفيدهم ويتركون ما يقولون إنه يضرهم.
وفي حقيقة الأمر المسألة لا علاقة له بالفائدة أو الضرر، وإنما لها علاقة بما يعتقد هؤلاء أنه يؤمن سلطتهم وسيطرتهم على مجتمعاتهم في المقام الأول. وهذه الانتقائية قد تنجح في شراء بعض الوقت للأنظمة الاستبدادية، لكنها مع الزمن تشوه الدول والمجتمعات وتدخلها في مسارات كارثية.
وهذا على الأقل ما تعاني منه معظم الدول العربية والإسلامية اليوم، حيث يصعب وصف النموذج الذي تسير عليه. فهي من جهة تبدو بعيدة تماما عن أية مساهمة في الحضارة المعاصرة، وهي من جهة أخرى تأخذ ببعض منتجات هذه الحضارة وترفض بعضها الآخر. وفي الإجمال هي تعاني مما يمكن أن نطلق عليه عوارض الفشل في التكيف مع الحداثة.
ومع ذلك فإن الوهم المسيطر على الأفكار والأذهان في المنطقة هو تحدي الحضارة الغربية والحديث عن إمكانية استبدال هذه الحضارة أو على الأقل العمل على إضعافها وتخريبها. ويذهب الوهم إلى مسافة أبعد حيث يجري تحبيذ الوقوف إلى جانب أنظمة الاستبداد في العالم وتلك التي تروج للخرافة ونظريات المؤامرة ومشاعر الكراهية والتي تتنكر للحقوق الأساسية للإنسان وخاصة تلك المتعلقة بالفئات الضعيفة في المجتمع مثل النساء والمثليين.
إن أكثر ما يحز في النفس هو أن الوقت والجهد الذي يهدر في تكريس العداء للحضارة الغربية، كان الأجدى أن يستغل في رفع جاهزية الإنسان العربي والمسلم للانضمام إلى هذه الحضارة والمساهمة فيها، والذي يبدو أن الأمل الوحيد لحدوثه هو إصلاح منظومة التعليم لجعله قائما على العلم ومتوافقا مع قيم الحضارة المعاصرة والذي للأسف لا توجد نوايا أو مؤشرات على حدوثه في المستقبل القريب.