بقلم/عمران سلمان – قناة الحرة – 23 فبراير 2022/
الحملة الشرسة التي يتعرض لها زميلنا الكاتب والإعلامي، إبراهيم عيسى، وبضمنها توجيه الاتهامات والتحقيق معه من قبل النيابة المصرية، هي حملة ظالمة ومستنكرة دون شك، والمؤكد أيضا أنها لن تجعل من قصة “الإسراء والمعراج” حقيقة عند من يعتقد بأنها مجرد وهم وخرافة، وهي كذلك بالفعل وفق رأيي، ولن تردع أو تخيف الذين يُعمِلون عقولهم ويفكرون بحرية وضمير. لكنها فقط سوف تسيء إلى مصر وإلى جهازها القضائي وتجعل منها نموذجا صارخا على الانفصام والازدواجية.
ومع اعتقادي أن الذي حرك هذه القضية بالدرجة الأولى هو الانتقاد القاسي الذي وجهه إبراهيم إلى وظيفة رجل الدين وبالتالي إلى مؤسسة الأزهر (وهي مؤسسة تابعة للحكومة) وليس بالضرورة حديثه عن قصة الإسراء والمعراج الذي جاء عرضا، إلا أن القضية برمتها تعيدنا من جديد إلى المربع الأول ألا وهو ازدراء الأديان!
وللمصادفة، كنت ضيفا على برنامج الأستاذ إبراهيم عيسى الذي يقدمه على شاشة الحرة “مختلف عليه” في شهر سبتمبر الماضي، وكان الموضوع هو تهمة ازدراء الأديان المتضمنة في قانون العقوبات المصري، وتقريبا في معظم قوانين الدول العربية بصيغ وأشكال مختلفة.
ولم يكن من الصعب أن نخرج حينها، كما هو الحال اليوم، بأن هذه المادة هي أولا شكل من أشكال الإرهاب الذي ينتمي إلى أزمنة “الحسبة” و”محاكم التفتيش”، حيث أنها صممت بصورة تجعلها فضفاضة ومطواعة يستخدمها قضاة السلطان كيفما شاءوا ولأية أغراض أرادوا تحقيقها.
وثانيا، هي على هذا النحو سيف مسلط على رقاب الكتاب والمفكرين والباحثين الذين يتجرأون على التساؤل والنقد ويغامرون بطرح خلاصة ما توصلوا إليه من استنتاجات وآراء، حتى وإن كانت تخالف ما هو “معلوم من الدين بالضرورة”، وصفة “المعلوم” هنا لا تجعله معصوما أو تعفيه من النقد، إلا عند من يعتقد فيه ويؤمن به. لكن عند الذين يبحثون في تاريخ الأديان أو نقدها فإنهم لا بد أن يساءلوا هذا “المعلوم” لكي يعرفوا مصدره ويروا ما إذا كان ابن زمانه وسياقه وما إذا كان له أصل من الحقيقة والمنطق.
ووظيفة الباحث عموما، لا بد أن تسمح بتداول أكبر قدر ممكن من التنوع في الآراء والأفكار والاحتمالات بشأن موضوع البحث، وهذا هو الذي يعطي معنى لحرية التفكير والرأي والمعتقد.
كما هو الحال مع العديد من القصص التي تحفل بها كتب الأديان، والتي هي من وجهة نظر المؤمن بها “معلوم من الدين بالضرورة” وحقيقة لا تقبل الشك، لكنها من وجهة نظر من لا يؤمن بها مجرد قصص تنافي العقل والمنطق ويستحيل وقوعها، بل لا يوجد أي دليل على حدوثها من الأصل. وهناك أيضا من يعتبرها مجرد مجاز الهدف منه هو التوضيح والشرح والإبانة لا أكثر ولا أقل.
بعبارة أخرى، فإن الهدف هنا هو ليس الإساءة إلى الدين نفسه (إن كان ثمة إساءة)، بقدر ما يتعلق الأمر بأننا في عصر لا يمكننا أن نتفادى فيه إجراء نقاش حر بشأن الدين وكل ما يتعلق به من أمور، خاصة مع إصرار أتباعه ومعهم السلطات الحاكمة، على اقحامه في الشأن العام أو الحيز المشترك بين جميع المواطنين.
هذا الإصرار هو الذي يجعل مثل هذا النقاش ممكنا، بل وواجبا، رغم أنه قد يذهب أحيانا إلى مساحات غير مرغوب فيها.
أما لو كان الدين مجرد شأن شخصي متعلق بكل فرد، كما هو الحال في المجتمعات العلمانية، فلن يتعرض له أحد. ففي الدول الغربية لا أحد يناقش ما إذا كانت معجزات المسيح هي حقيقية أم لا، أو ما إذا كان اليهود قد عاشوا في مصر أم لا، سوى الأكاديميين أو المهتمين بالتاريخ، وحتى هؤلاء لا يفعلون ذلك إلا عندما يتم اكتشاف آثار أو أدلة جديدة ترجح هذه الفرضية أو تلك، ومن النادر أن تصبح هذه الموضوعات قضايا عامة.
فهناك احترام لمعتقدات وأديان الناس ما دام أن هذه المعتقدات تُمارس في نطاقها الخاص، أي على المستوى الفردي وضمن المؤسسات الخاصة بها، ولا تسعى لفرض نفسها على المجال العام.
وهذا ما نأمل أن تتطور المجتمعات العربية والإسلامية إليه يوما ما، ولا شك أنها سائرة نحوه بشكل أو بآخر. لكن إلى أن يحدث ذلك من الواضح أننا سوف نشهد معارك وسجالات إعلامية وثقافية وسياسية صاخبة حول الدين وكل ما يتصل به. ولأن الزمن لا يسير لمصلحة رجل الدين ووظيفته التي لم تعد صالحة للاستهلاك، ولأنه من الصعب التمسك والدفاع عن الجانب الخرافي والمناهض للعلوم في الأديان، فهذا يجعل بعض رجال الدين يتخذون مواقف حادة تجاه مخالفيهم ويؤلبون السلطات السياسية ضدهم، لا سيما أولئك القادرين على إيصال صوتهم إلى أكبر عدد ممكن من الناس. وهذا ما يحدث اليوم في الواقع وهو جزء من ردة فعل متوقعة. وهي سوف تتصاعد مع الوقت كلما تسارع التغيير وكلما تسارعت قدرة أفراد الأجيال الجديدة على تشكيل آرائهم وقناعاتهم من دون الحاجة إلى رجال الدين.