شُكُوه مقيمي – رصيف 22 – 22 أكتوبر 2021/
إذا سألتم الإيرانيين المسلمين، الذين معظمهم من الشيعة، عن زرادشت والزرادشتيين، فإن الإجابة الأولى وربما الوحيدة التي سوف تسمعونها منهم ستكون تعاليم زرادشت الشهيرة: “القول الصالح، الفكر الصالح، العمل الصالح”.
وليس من المُستبعد أن يكون بعض هؤلاء الشيعة مرتدين عقداً يحمل شعار “فروهر” حول أعناقهم لإظهار اهتمامهم بالزرادشتية، وربط أنفسهم بالهوية الإيرانية القديمة، وربما یکون بعضهم مخلّدين هذا الشعار بالوشم على بشرتهم.
رغم الاهتمام المتزايد للشيعة الإيرانيين ببعض الرموز والتعاليم الزرادشتية، وهو اهتماما ممزوج بالسلوكيات القومية القديمة و”الإسلاموفوبية”، إلا أن الزرادشتيين لم يتمتعوا بحياة مريحة في إيران، ولا زالوا لا يتمتعون بها كثيراً.
تاريخ الزرادشتيين في إيران مليء بالتمييز والاضطهاد الذي تعرضوا لهما خلال فترات مختلفة، لا سيما بعد الفتح الإسلامي لإيران.
ماذا فعل مسلمو صدر الإسلام بالزرادشتيين؟
وفقاً لما كتبه المستشرق الهولندي، مارتن ثيودور هوتسما، في المجلد الرابع من موسوعة الإسلام (طبعة ليدن)، بدأ الاضطهاد من جانب المسلمين ضد أتباع زرادشت منذ فترة تغيير الدين القسري، حيث دمر المسلمون معابد النار الزرادشتية وأجبروهم على دفع الجزية.
بوصول الإسلام إلى إيران، كان على أتباع الزرادشتية إما أن يؤمنوا بالإسلام، أو أن يهاجروا إلى مناطق بعيدة عن المسلمين، أبرزها الهند. وأصبح الزرادشتيون المهاجرون إلى الهند يعرفون باسم “فرس الهند” (پارسيان هند)، ولعب هؤلاء لاحقاً دوراً مهماً في تطورات الحداثة الإيرانية.
اضطهاد الزرادشتيين في إيران خلال الحكومات السُنية
تم غزو آخر الأراضي التي كانت تسود فيها الديانة الزرادشتية خلال الخلافة الأموية (661-750 م). يقول كتاب “تاريخ إيران بعد الإسلام” الذي ألفه الكاتب الإيراني، عبد الحسين زَرّين كوب، إن مقتل عُمر على يد إيراني، وتورط الإيرانيين في ثورة ضد الخلفاء تسببا في تشاؤم الأمويين تجاههم، وأدى إلى التعامل العنيف مع الزرادشتيين الذين كان يطلق عليهم “الموالي”.
تصف ماري بويس، الباحثة البريطانية في اللغات الإيرانية والمتخصصة في الزرادشتية، على العباسيين، في كتابها “الزرادشتيون؛ المعتقدات والممارسات الدينية”، بأنهم “الأعداء اللدودون للزرادشتيين”.
وتشير ماريتا ستيبانيانتس، الفيلسوفة والمستشرقة الروسية، في مقالها “مواجهة الزرادشتية مع الإسلام” إلى الزيادة الهائلة في اضطهاد الزرادشتيين خلال الخلافة العباسية (750م – 1258م) وتدمير مقابرهم وأماكن عبادتهم خلال هذا العصر.
كما يشير المؤرخ البريطاني، جون أندرو بويل، في المجلد الخامس من كتاب “كامبريدج لتاريخ إيران” إلى أن الأقليات الدينية في إيران منذ العصر السلجوقي الذي تزامن مع الخلافة العباسية فصاعداً كانت تُعرف باسم “أهل الذمّة”، وكانت تسكن في أحياء بعيدة عن المسلمين، وكانت تدفع الجزية وتلبس الغيار (لباس من قماش أصفر كان يتميز به أهل الذمة عن المسلمين).
ومن جهة أخرى، توضح ستيبانيانتس، في مقالها المذكور أعلاه، أنه خلال الخلافة العباسية تم لأول مرة تغيير لقب الزرادشتيين من “أهل الذمة” و”أهل الكتاب” إلى “الكفّار”.
ويؤكد المستشرق البريطاني، توماس ووكر أرنولد، في كتابه “The Preaching of Islam” أن الزرادشتيين أصبحوا أقلية دينية في إيران لأول مرة في تاريخهم، خلال الخلافة العباسية.
الزرادشتيون في العصرين الصفوي والقاجاري إلى الثورة الدستورية
مع وصول الصفويين إلى السلطة، واجه الزرادشتيون الحكم الشيعي وتسارع انخفاض عددهم. شهد الظلم ضد الأقليات الدينية خلال العصر الصفوي ارتفاعاً وانخفاضاً وفق سياسات الحكومة الدينية الصفوية. تعاملت الحكومة مع الزرادشتيين بشكل أكثر سلمية في عهد الشاه عباس، وفي عهدي الشاه سليمان والشاه سلطان حسين، وبسبب تعزيز قوة علماء الشيعة كان هذا التعامل أكثر صرامة. في ذلك الوقت، كان معظم الزرادشتيين يسكنون مدن إصفهان ويزْد وكرمان، لكن معظمهم هاجروا إلى كِرمان بسبب اضطهاد الشاه سلطان حسين ضدهم.
في بداية العصر القاجاري (1779م) اشتد الضغط على الزرادشتيين. كتب إدوارد براون في كتاب رحلته “عامٌ بين الإيرانيين”، عن الوضع البائس للزرادشتيين خلال العصر القاجاري، من جعل المضايقات حدثاً يومياً للمسلمين إلى تمييز منازل الزرادشتية بعلامات خاصة، وسنّ قوانين لتشجيعهم على اعتناق الإسلام، حيث كان يذهب ميراث الأسرة بالكامل للشخص الذي يصبح مسلماً في عائلة زرادُتشتية.
لكن في نهاية العصر القاجاري، كان للزرادشتيين، الذين تمكنوا بمساعدة فرس الهند من تحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي في إيران، دور مهم في شؤون البلاد الاقتصادية. ويؤكد تأسيس مراكز تجارية مهمة مثل “جمشيديان” و”جهانيان” ويِگانِگي” في هذه الفترة، القوة الاقتصادية للزرادشتيين.
كانت هذه المراكز التجارية من أهم المشاريع والمؤسسات الاقتصادية في العصر القاجاري، والتي كانت تعمل في مجالات عديدة منها الصيرفة والشؤون المالية والعقارات، وكانت موثوقة لدى الشعب والحكومة في ذلك الوقت بسبب سُمعة الزرادشتيين الحسنة في الصدق والأمانة. لكن ازدهار هذه المراكز التجارية لم يدم طويلاً، وتسبب تدخل الأجانب، بما فيهم الروس، في ركودها وإفلاسها.
مع ظهور الثورة الدّستورية في إيران (1905م)، وطرح الأهداف الساعية إلى العدالة بالتزامن مع نمو الأفكار القومية في إيران، لفت الزرادشتيون انتباه التيارات القومية الإيرانية كونهم بقايا من العصور القديمة والمجد التاريخي لإيران. خلال هذه الفترة، تحسن وضع الأقليات الإيرانية، وتطلب دستور البلاد وجود ممثل للزرادشتيين في البرلمان.
الزرادشتيون وأيديولوجية إيران القديمة في العصر البهلوي
كان أحد آثار أيديولوجية إيران القديمة والعودة إلى الذات في العصر البهلوي (1925 – 1979م)، اكتساب الزرادشتيين موقعاً أفضل من السابق، ومزيداً من التقارب إلى السلطة وسُمح لهم بدخول البلاط. في أوائل العصر البهلوي، قدم رضا شاه، دعماً خاصاً للأقلية الزرادشتية، ووفقاً للكاتب الإيراني، إحسان طَبَري، في كتابه “إيران في القرنين الماضيين”، دخل إلى الساحة وبدعاية كبيرة، زَرادشت (رسول الزرادشتية) كمظهر وطني، وأفِيستا (كتاب الزرادشتيين المقدس) كتذكار قديم مهم، وأهورامزدا (إله الخير عند الزرادشتيين) باعتباره رمزاً للانتماء إلى الهوية الإيرانية.
من خلال القيام بذلك، تمكن شاه إيران، رضا شاه، من الحصول على الدعم والموافقة على حكمه. يشير الكاتب الإيراني، جهانگير أوشيدري، في كتابه “تاريخ البهلوي والزرادشتيين” إلى هذا الموضوع، ويقول: “لطالما كان لدى الإيرانيين القدماء تمجيد واحترام خاص تجاه الشاه، لا يفوقه أي تمجيد، وكان هذا الاعتقاد لديهم لدرجة أنهم في صلواتهم اليومية كانوا يطلبون من الله العافية والنصر والتوفيق الدائم للشاه، وأن يبعد الربُّ الشرَّ عنه. وتتضمن التراتيل التي يغنيها الزرادشتيون في الأعياد الدينية والوطنية، في قسم (المخلوقات)، تقديم التحية والاحترام لأهورامَزدا والاعتراف بقبول أمر الشاه كظلّ الله”.
الزرادشتيون بعد الثورة الإسلامية في إيران
بعد عام 1979 وانتصار الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس النظام الإسلامي في البلاد، هاجر العديد من الزرادشتيين المرتبطين ببلاط الشاه من إيران، وتمّ عزل ورفض العديد غيرهم. في كتابه “إيران، من الاختلاف الديني إلى الثورة” يشير الباحث الأمريكي، مايكل فيشر، إلى غزو معابد النار الزرادشتية من قبل المسلمين الثوريين، وتعليق صورة الخميني (زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية) بدلاً من صورة زرادشت على جدران أضرحتهم.
وصل التمييز ضد الزرادشتيين في النظام الإسلامي إلى مجال التعليم والدراسة والعمل والمشاركة السياسية، وحرمت القوانين الزرادشتيين الذين يبلغ عددهم نحو 25 ألفاً حسب الإحصاءات الرسمية، من العديد من الفرص التعليمية والمهنية، واستمر هذا التمييز حتى يومنا هذا، رغم تقليله في السنوات الأخيرة بسبب السخط والغضب الشعبي من هذه القضايا، والذي ازدادت قوته بسبب تغطيتها في الإعلام، وتداولها، والتفاعل معها في مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً بسبب الضغوط والانتقادات الدولية ضد إيران.
في عام 2019، أقرّ المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران، في قانون رسمي، اليوم السادس من الشهر الأول من العام الإيراني الموافق 25 أذار/مارس “يوم زرادشت”.
في نفس العام، أصدرت منظمة الرعاية الإيرانية تعميماً يحظر توظيف المعلمين من الأقليات الدينية في رياض الأطفال، وتم تغيير هذا القرار بعد احتجاج ممثل الزرادشتية في البرلمان. كما واجه وجود ممثل للزرادشتية في المجالس المحلية في المدن والقرى، انتقادات رجال الدين في إيران قبل سنواتٍ قليلةٍ.
وكان سِبنتا نيكنام هو الوجه الأكثر شهرة لهذه الأحداث، والذي دخل للمرة الثانية المجلس المحلي لمدينة يزد في عام 2017 بـ22 ألف صوت، في حين قدر عدد الزرادشتيين المؤهلين للتصويت في يزد 5 آلاف، لكن تم تعليق عضويته بعد أن طعن أحد المرشحين الأصوليين الخاسرين في الانتخابات في صحة عضويته، وقدم شكوى لمحكمة القضاء الإداري بحجة أنه غير مسلم ولا يحق له أن يمثل المسلمين.
وبعد هذه الشكوى أصدر مجلس صيانة الدستور الإيراني الذي يهيمن عليه رجال الدين المتشددون قراراً بعدم صلاحية ترشح سِبنتا لعضوية المجلس المحلى بمدينة يزد، بسبب ديانته وبحجة أنه “في المناطق ذات الأغلبية المسلمة لا يمكن لشخص من الأقليات الدينية أن يكون عضواً في المجالس المحلية، حيث لا يحق ولاية غير المسلم على المسلم”.
واعتبر مجلس صيانة الدستور أن أعضاء المجالس المحلية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة ينبغي أن يكونوا مسلمين، رافضاً العمل بالمادة 19 من الدستور الإيراني التي تتحدث عن حق الشعب الإيراني بكل قبائله وقومياته بالتمتع بحقوق متساوية، والمادة 20 التي تؤكد أن القانون يحمي جميع أفراد الشعب بصورة متساوية، والتي تنص على ضرورة أن يتمتع الجميع بالحقوق الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
بعد ذلك، وبناء على حكم محكمة القضاء الإدارى، قد تم تعليق عضوية سبنتا في مجلس مدينة يزد لمدة 9 أشهر، ومُنع من الحضور في اجتماعات مجلس المدينة. لكن عاد نيكنام لمزاولة نشاطه في المجلس بعد قرار مجمع تشخيص مصلحة النظام القاضي بإصلاح قانون انتخابات المجالس المحلية والسماح للأقليات الدينية بالمشاركة في هذه المجالس، بعد خلاف كبير بين مجلس صيانة الدستور والبرلمان، وبعد جدل كبير وموجة غضب شهدته البلاد.
قرار مجمع تشخيص مصلحة النظام لقي صدى كبيراً في إيران آنذلك، حيث وصف من جانب بعض الصحف بـ”فوز الأقلية بأصوات الأكثرية”. وعبّر البعض عن أمله في أن تكون هذه الخطوة بداية لمزيد من الإصلاحات في جميع المجالات، لاسيما تعزيز حقوق الأقليات الدينية في إيران، وفتح الباب أمام مشاركة أوسع للأقليات الدينية.
رغم هذه التغييرات الإيجابية، لا يزال الزرادتشيون في إيران يعتبرون أقلية دينية تعاني من التمييز.
في مقابلة مع دويتشه فيله قال الشخصية الزرادتشية البارزة والباحث والممثل السابق لهذه الديانة في البرلمان الإيراني: “وفقاً للدستور الإيراني، يُعترف بالديانة الزرادشتية كإحدى الأديان، ولدينا ممثلون في البرلمان، ويمكننا إقامة الاحتفالات والطقوس الخاصة بنا بحرّية، ولكن يجب إبلاغ السلطات بها، وحصولنا على ترخيص قانوني لها. إذا أراد الزرادشتيون في إيران إقامة احتفال أو مراسم فيجب عليهم أولاً الحصول على إذن من وزارة الداخلية والثقافة، وإلا فلن يكون لديهم الحق في إقامة هذه الاحتفالات”.
وينتقد الزرادشتيون في إيران عدم منح المناصب الإدارية والحكومية لهم، وأنهم لا يستطيعون سوى القيام بالوظائف والاستثمارات الخاصة، مما دفع الآلاف منهم إلى مغادرة إيران.
يقول كوروش نيكنام إن آلاف الزرادشتيين قد هاجروا من إيران إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة بسبب القيود المفروضة عليهم. وبحسبه أصبح عددهم في البلاد الآن أقل بكثير مما كان في السنوات السابقة.
“السبب الأهم هو البطالة… جميع الشباب الزرادشتية متعلمون وعندما يتخرجون لا يستطيعون الحصول على وظيفة بسبب القيود الموجودة على توظيفهم في العديد من المراكز الحكومية الإيرانية، مثل الجيش والشرطة والتعليم وغيرها من المراكز، وبطبيعة الحال يجب أن يكون لديهم رأس المال اللازم للقيام بالعمل الخاص بهم، لكن في البلدان الأخرى تتاح فرص العمل لهم”، هكذا يروي نيكنام سبب هجرة الزرادشتيين.
وفقاً لقانون الجيش الإيراني، التدين بالإسلام هو أحد الشروط الأساسية للتوظيف. بصرف النظر عن الجيش، لا توجد قيود قانونية على توظيف الأقليات الدينية في أي منظمة أو مؤسسة إيرانية أخرى، ولكن وفقاً لنيكنام فإن توظيفهم لم يتم في العديد من المؤسسات الحكومية.
يضیف نيكنام: “لا تشعر الأقليات الدينية في إيران بالأمان، ویعتبر أعضاؤها بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة. لا يشعرون بأنهم تحت حماية حكومة توفر لهم المأوى والإمكانيات. إنهم يفضلون الذهاب إلى دول أوروبية والولايات المتحدة، حيث توجد الحرية بغض النظر عن الدين”.