معارك المستقبل تقترب من الحاضر

بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 22 أكتوبر 2021/

واحدة من التحديات الكبرى التي سوف نواجهها نحن البشر في هذا القرن سوف تكون القدرة على الموائمة بين المنافع الكثيرة التي يجلبها الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت نفسه المضار، وخاصة الحفاظ على الخصوصية والاستقلالية وقيمة العنصر البشري، كما يقول المؤرخ والمفكر الإسرائيلي يوفال نوا هراري.

وشرح هذه المسألة ليس صعبا، لكنه بحاجة إلى سياق. والسياق هنا هو أن الذكاء الاصطناعي وتطور قدرة الشركات على جمع البيانات عن الإنسان – اختياراته ورغباته وتفضيلاته.. الخ – مما نشهده اليوم في العديد من التطبيقات الإلكترونية، سوف يمكّن هذه الشركات، مع الوقت ومع تزايد قدرتها على تحليل هذا الكم الهائل من المعلومات، من إنشاء خوارزميات معينة بإمكانها أن تعمل على أساس التفاعلات البايوكيميائية في الإنسان، ما يجعلها قادرة على اختراقه – إذا جاز التعبير- ومعرفة كل شيء عنه، وربما أكثر مما يعرفه هو عن نفسه.

بالطبع قد يكون لهذا الأمر جانب سلبي، يتمثل في انتفاء الخصوصية عن الإنسان. فهو سيكون مثل الكتاب المفتوح. سوف يمكن معرفة ميوله ورغباته والطريقة التي يفكر بها، وما الذي يحزنه أو يفرحه وما هو نوع الموسيقى التي يفضلها والألوان التي يحبها والأطعمة والبضائع التي يميل لها… الخ.

وهذا بالطبع باب تستفيد منه الشركات والمصنعون، وربما أيضا أجهزة أخرى مهتمة بمعرفة هذه المعلومات عن الإنسان. مما يجعل هذه الشركات والجهات في وضع تنافسي أفضل مع مثيلاتها في العالم. لأنها سوف تقدم لهذا الإنسان بالضبط الأشياء التي يرغب فيها، حتى من دون أن يكون واعيا بالضرورة لهذه الاختيارات.

لكن من الناحية الأخرى فإن هذا التطور له جانب إيجابي أيضا، والذي يتمثل في مساعدة الإنسان على معرفة نفسه بصورة أفضل، بما في ذلك توقع نوعية الأمراض التي سوف تصيبه بصورة مبكرة، والقرارات الضارة التي قد يتخذها سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى البيئة المحيطة، وأيضا أنماط التفكير المختلفة التي قد تتطور لديه.

وبالتالي فإن السؤال سوف يصبح دائما هو: ما الثمن الذي يتعين على الإنسان أن يدفعه كي يحصل على خدمة متقدمة، وهل سيكون ذلك مقبولا حتى إذا جاء على حساب الخصوصية والاستقلالية؟ هل من الممكن مثلا أن يقبل الإنسان أن يعيش عمرا أطول أو يتخلص من أمراض معينة، في مقابل تنازله عن خصوصية المعلومات المتعلقة بتكوينه الوراثي أو الجسدي أو النفسي؟

 الواقع أنه حينما يتعلق الأمر بالتطور الهائل للذكاء الاصطناعي فإنه سوف يضع الكثير من المفاهيم التي نتداولها اليوم موضع تساؤل أو استفهام، بما في ذلك تلك المتعلقة بالسياسة والاقتصاد.

 من ذلك مثلا، ما هو مصير النظام الديمقراطي الذي نعرفه حاليا؟

فحتى الآن يواجه المرشحون صعوبات جمة في توقع اتجاه الناخبين على وجه الدقة أو معرفة القضايا التي على أساسها سوف يصوتون. هناك بالطبع استطلاعات الرأي وغيرها من الوسائل التقليدية، لكن هذه الوسائل تعطينا مجرد نتائج تقريبية وهي قد تخطئ مرة بعد أخرى لهذا السبب أو ذاك.

لكن في حالة الذكاء الاصطناعي، فإن الحصول على كم هائل من المعلومات عن الإنسان وتفضيلاته والقدرة على معالجتها، لن يمكّن هذه الجهة أو تلك من توقع ميول الناخب السياسية فحسب، وإنما أيضا تصميم برامج انتخابية لكل مرشح وبحسب الدائرة وميول الناخبين على النحو الذي يجعل التحكم في نتيجة الانتخابات أمرا محسوبا إلى حد كبير، وهذا من دون أن يتمكن الناخب نفسه من معرفة ما يجري.

وهذا إن حدث فهو سوف يفرغ العملية الديمقراطية من محتواها، وسوف يقضي على مفهوم الاستقلالية والاختيار الحر لدى الناخبين، وهي من الأمور الجوهرية في نجاح أي عملية ديمقراطية.

قد لا يكون هذا أمرا ممكنا في الواقع العملي، فهناك جهات رقابية سواء على مستوى البرلمان أو الحكومة أو غيرها لن تسمح للشركات أو أي جهات أخرى بالمضي في مخططها هذا، لكن من الناحية النظرية هو أمر ممكن، وهو يوضح نوعية التحديات التي يفرضها تطور الذكاء الاصطناعي.

وحتى الآن كان يمكن توقع نوعية الوظائف التي سوف يوفرها سوق العمل، على المستوى المنظور، وبالتالي تصميم برامج التعليم كي تتناسب مع هذه الحاجات، ولكن في ظل التطور السريع للتكنولوجيا، قد يكون من الصعب توقع نوعية الوظائف المتوفرة كل عشر سنين. والأصعب هو معرفة الطريقة التي يتعين على الناس من خلالها أن يتكيفوا مع هذه التغيرات السريعة والمهارات التي يتوجب عليهم اكتسابها كي يبقوا على فرصهم في العمل.

وما الذي سوف يفعله العدد المتزايد من العاملين، الذين سوف تختفي وظائفهم، ويتم إحلال الروبوتات أو الأجهزة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي في مكانهم؟

وإذا كانت الدول الغنية تناقش اليوم هذه القضايا وتبحث في التبعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لهذا التطور، بما في ذلك كيفية تأمين معيشة هؤلاء العاطلين، فإن الدول النامية أو دول العالم الثالث، وبينها دولنا العربية، تبدو للأسف غائبة تماما عن أية نقاشات مماثلة، رغم أنها ستكون في وضع صعب جدا.  

بعبارة أخرى، كما يقول المفكر يوفال، فإنه لأول مرة في التاريخ تصبح الحاجة للعنصر البشري من الناحية الاقتصادية موضع شك بسبب قدرة الكمبيوترات والآلات على أداء المهام بصورة أفضل وأكبر، الأمر الذي يفرض تحديات جمة وغير مسبوقة في الوقت نفسه.  

وهذه التحديات لن تكون في المستقبل المتوسط أو البعيد، كما تعودنا على الحديث عن ذلك، ولكنها باتت على مسافة عقود قليلة منا، وهي تتغير بصورة سريعة ويصعب التنبؤ بآثارها.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.