بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 23 يوليو 2021/
إذا كان هناك من يريد أدلة على أن الخرافة والشعوذة موجودة أيضا في العالم المتقدم، وأنها ليست ماركة مسجلة مقتصرة على العالمين الثاني أو الثالث أو ما دونهما، فعليه ألا يذهب بعيدا.
محطة “فوكس نيوز” الأميركية باتت منذ سنوات متخصصة في نظريات المؤامرة ونسج قصص الخرافة وتقديمها لمشاهديها، سواء تعلق الأمر بوباء كورونا والحرب المقدسة على “الكمامات” أو “الحتمية التاريخية” لفوز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة أو الحديث عن أساطير الدولة العميقة وتآمر المؤسسة الرسمية على الناس.. إلخ.
وفي القلب من هذا الجهد يأتي المذيع في المحطة “تاكر كارلسون” الذي تخصص في استنطاق الساحرات، ومن بين ما تفوه به مؤخرا هو أن إصرار من أخذوا التطعيم على ارتداء الكمامة يعد دليلا على أن اللقاحات لا تعمل وأن السلطات الصحية الأميركية تخدع المواطنين وتجبرهم على أخذ التطعيمات من دون داع!
البعض يقول بأن هذا التوجه مقصود، إذ أنه من أنجع الوسائل لرفع نسبة المشاهدين وتحقيق الأرباح وربط الجمهور بالتوجهات المحافظة للقناة، وهذا صحيح من وجوه كثيرة. فلا شيء ينجح أكثر من إثارة الغرائز البدائية لدى الناس واللعب على عاملي الخوف والطمع ومناهضة الحكومة.
لكنه بهذه الطريقة يكف عن أن يكون إعلاما، ويتحول إلى ماكينة دعاية حزبية، والفرق بين الإعلام والدعاية، هو أن الأول يسعى جهده لتقديم الأخبار والمعلومات الصحيحة ويترك للمشاهد أو القارئ حرية تشكيل قناعاته، بينما الدعاية تنطلق من قناعات مسبقة وتسعى لربط وتجميع كل ما يرد إليها من أخبار، وإذا اقتضى الأمر اختلاق بعضها، من أجل إثبات وتأييد تلك القناعات.
وأخطر أنواع الدعاية تلك التي ترتبط بأيديولوجية سياسية أو دينية. وهذا هو حال “فوكس نيوز”.
والقول بأنه لا يوجد إعلام محايد، هي مقولة صحيحا بطبيعة الحال. فالكل يسعى للتأثير على المستهلك الإعلامي، لكن الفرق بين الانحياز أو عدم الحياد وبين الدعاية فرق صارخ. فالانحياز أهدافه متواضعة وتأثيره موضعي، يتعلق بهذه السياسة أو تلك. والأهم أنه لا يختلق الأخبار أو يزيف المعلومات، وإنما يسعى للتأثير بنفس الطريقة التي تمارسها الإعلانات التجارية، أما الدعاية فهي تتم انطلاقا من نية سيئة وهدف وتخطيط مسبقين لتوجيه المتلقي نحو نتيجة محددة.
وهناك في القواميس تعريفات مختلفة للدعاية، لكن جميعها تشترك في عدة أمور مثل الطريقة والهدف، ومن بين هذه التعريفات:
“نشر أفكار أو معلومات أو شائعات بغرض المساعدة أو الإضرار بمؤسسة أو قضية أو فرد”.
وكذلك “نشر أفكار أو وقائع أو ادعاءات بصورة متعمدة لخدمة قضية فرد أو الإضرار بقضية معارضة””.
وأيضا “نشر معلومات – حقائق وحجج وشائعات وأنصاف حقائق، أو أكاذيب – للتأثير على الرأي العام”.
وسائل الإعلام المنحازة في أي مجتمع لها ضررها بالتأكيد، لكن ضرر الدعاية والتضليل الإعلامي يظل أكبر بما لا يقاس.
وأوضح دليل على ذلك ما يجري حاليا في الولايات المتحدة، حيث يرفض أكثر من ثلث البالغين أخذ لقاح كورونا، تحت تأثير الدعاية المناهضة للقاحات وكذلك التضليل الإعلامي الذي حوّل القضية إلى صراع سياسي وأيديولوجي.
وقد اضطر موقع تويتر (يوم الاثنين 19 يوليو)، وللمرة الثانية، إلى تجميد حساب النائبة الجمهورية عن ولاية جورجيا المثيرة للجدل مارجوري تايلور غرين، التي سبق لها أن شبهت فرض لبس الكمامة بالهولوكوست، وذلك بعد أن نشرت تغريدات اعتبرها الموقع مضللة بشأن كورونا واللقاحات، حيث زعمت أن فيروس كورونا ليس خطيرا بالنسبة للأشخاص غير البدناء، ومن هم أكبر من 65 عاما، وأنه لا يتعين أخذ اللقاح لمن هم خارج هاتين الفئتين.
وبحسب تقرير صادر عن مركز مكافحة الكراهية الرقمية (CCDH) فإن الغالبية العظمى من المعلومات المضللة المضادة للقاحات كورونا، وكذلك نظريات المؤامرة في هذا الشأن، مصدرها 12 شخصًا من الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك.
وقد حلل المركز 812 ألف منشور على فيسبوك وتويتر، ووجد أن 65% منها جاءت من هذه المجموعة التي يتبع حساباتها حوالي 59 مليون شخص.
ومن بين هذه المجموعة، يقول التقرير، يوجد أطباء يتبنون العلوم الزائفة، ولاعب كمال أجسام، ومدون صحي، ومتعصب ديني، وأبرز من في المجموعة هو روبرت إف كينيدي جونيور، ابن شقيق الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، الذي ربط اللقاحات بمرض التوحد، كما ربط شبكات الاتصالات الخلوية من الجيل الخامس بجائحة فيروس كورونا!
والحال أنه من العبث محاولة السيطرة على نظريات المؤامرة، ومن غير المجدي إجبار الناس على عدم التصديق أو الإيمان فيها، فهي كانت وستظل موجودة كنمط من التفكير ويجب التعايش معه، لكنها تتحول إلى مشكلة حقيقية حين تجد هذه النظريات الدعم والتبني من قبل أشخاص رسميين أو نافذين أو مؤسسات معترف بها. حينها يصبح الأمر “غسيل أفكار”.. تماما مثل غسيل الأموال!