رواء مرشد – رصيف 22 – 29 أبريل 2021
في سياق نهج حركة حماس في قمع الآخر في غزة بأشكال مختلفة، بهدف فرض سيطرتها على العقول وفرض رأيها وفكرها ومنهجها، تعرّضت أنا، رواء مرشد (26 عاماً)، بصفتي صحافية ومواطنة فلسطينية، لمستوى غير مسبوق من الإهانة على يد عنصر ينتمي للأمن.
تأخرتُ في نشر التفاصيل. كنت أنتظر رد الجهات الرسمية، وحاولتُ اتّخاذ الإجراءات القانونية منذ اللحظة الأولى… الاعتداء وقع يوم الأحد، في 25 نيسان/ أبريل، الساعة الخامسة عصراً. كنّا أنا وزميلتي، وهي مصورة، ومساعد لها، وبرفقتنا طفلة بعمر ست سنوات، في جلسة تصوير في إحدى المزارع الحيوية في منطقة جحر الديك، وأثناء عملنا، جاء اثنان من رجال الضبط الميداني بلباس عسكري حاملين السلاح وبدأوا باستجوابنا عن هويتنا والجهة التي نعمل لصالحها.
سألونا إنْ كنّا نعلم أن هذه الأرض منطقة أمنية، فأجبنا بكل احترام بأننا لا نعلم، كون زميلتي أتت إلى المكان قبل أسبوع وأتمّت جولة تصوير دون أي استجواب من قِبل أي أحد، وكوننا حصلنا على موافقة على التصوير من صاحب الأرض. وأخبرناهم أنه إذا كانت هذه المنطقة أمنية سنغادر على الفور.
طلبوا بطاقاتنا التعريفية، وأثناء تعريفي عن نفسي كصحافية، بدأ النقاش يذهب باتجاه مظهري وعدم ارتدائي الحجاب! عنصر الأمن كان يحاول إسكاتي بأسلوب أبعد ما يكون عن الأدب. قال لي: “اسكتي يا مرتدّة” وظل يوجّه لي جملاً من نوع أنني كافرة ولا أنتمي إليهم ولا يحق لي الكلام ولا تشرفه مناقشتي وعليّ أن أخرس…
ابتعدوا عنّا لمسافة 50 متراً تقريباً، ومعهم بطاقاتنا التعريفية، وطلبوا الشرطة النسائية. بدوري، هاتفت أحد المسؤولين في وزارة الداخلية، فقال لي إنه سيحلّ الأمر ولن تكون هناك مشكلة. وما هي إلا دقائق حتى عاد الشخصان وأعادا بطاقاتنا الشخصية وقام أحدهم بإكمال توجيه الحديث إليّ بلغة غير محترمة، فقمت بالرد عليه بالحرف الواحد: “أنت بتحكي معي بهذه الطريقة؟”، فما كان منه إلا أن أمسك بجذع شجرة وقام بضربي عدة ضربات على جسمي في أماكن حساسة أعتذر عن ذكرها، ولكنّي أمتلك تقريراً طبياً يوثّق آثارها موقّع من أحد الأطباء في مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة.
طبعاً، وقبل أن أنشر أيّة تفاصيل على وسائل التواصل الاجتماعي، حاولت متابعة الإجراءات القانونية مع وزارة الداخلية، ومرّت 48 ساعة على وقوع الاعتداء بدون نتيجة سوى تشكيل لجنة تحقيق لم تفدني بأي شيء ولم تتخذ أيّة إجراءات قانونية ضد المعتدي.
لهذا، توجهت إلى الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان لأروي تفاصيل ما حدث. تواصَلَت الهيئة مع وزارة الداخلية والنيابة العامة، ووجهَت رسالة إلى كل من وكيل وزارة الداخلية في غزة والنائب العام، كما شرح البيان الصحافي الصادر عن الهيئة، والذي بمجرد نشره بدأ الصحافيون والفاعلون على وسائل التواصل الاجتماعي بنشره، وتشكّلت حملة مناصرة لدعمي والمطالبة بحقي في محاسبة المعتدي.
للأسف، كما تعوّدنا، استسهلت وزارة الداخلية الرد بأن العنصر لا ينتمي إليها وإنما هو من عناصر جهاز الضبط الميداني التابع لحركة حماس، وإنها برغم ذلك ستقوم بالتحقيق في الأمر، وطلبوا منّي ألا أقوم بنشر التفاصيل إلى حين معرفة اسم المعتدي والانتهاء من التحقيق.
أنا هنا أروي، وبمنتهى الصدق والموضوعية، كل ما حدث معي، ليس تبريراً لشخصي إنما لتوضيح اعتداء تعرّضت له على أساس شكلي أو لباسي “غير اللائق”، على حد قول المعتدِي، وهو ما دعا أحد رجال الضبط لاستخدام جذع شجرة وضربي وترك علامات واضحة ومؤلمة على جسدي.
أنا حزينة جداً، وأكتب هذه المدونة وأنا لا أستطيع وصف ما بداخلي وما أشعر فيه من حزن شديد وبؤس، للموقف البشع الذي تعرّضت له خلال قيامي بجلسة تصوير مع أحد أصدقائي، في منطقة أكثر من جميلة، تقع وسط قطاع غزة وتتميز بمناظرها الخلابة من أزهار وأشجار، خاصة شجر الليمون الذي أعشقه وأعشق رائحته.
توجّهت إلى هذا المكان حتى ألتقط بعض الصور التي تُظهر جمال مدينتنا المحاصرة منذ 15 عاماً، لأنشرها على حساباتي على السوشال ميديا، لكن للأسف في لحظة ما، وسط الخضار، تحوّل هذا الشعور إلى كابوس بل وأكثر.
لم يكن يُخيَّل إليّ يوماً أن أمرّ بهكذا موقف، أنا التي تربّيت على الأدب واحترام الآخر ولم أتعرض لصفعة واحدة من أقرب الناس إليّ في عائلتي. لحق تشوه بجسدي على يد مَن أوكلت إليه حماية أمننا!
أنظر إلى تفاصيل الضرب على جسدي وأتذكّر لحظات الحادث بينما كان المعتدي يلحقني ليُلحق بي أكبر ضرر ممكن، وأنا أحاول حماية جسدي بكل الطرق.
شعور لا يمكن وصفه. هو خليط بين الخوف والرعب. كان خفقان قلبي يتسارع مع كل ضربة بينما هو يستمر في الاعتداء عليّ، وكأنما يريد إخراج كل الكبت الذي في داخله على كل مَن لا ترتدي الحجاب وعلى كل مَن لا ترتدي ثياب حركته ولا تعتنق فكرها ورأيها.
أعمل صحافيةً منذ ما يزيد عن سبع سنوات. في المجال الإعلامي، وجدت دعماً من نقابة الصحافيين التي أكدّت في بيان لها أنها ستتابع كل الإجراءات القانونية حتى ينال المعتدي عقابه.
ولأن سيادة القانون فوق الكل، وحقوق المواطن محفوظة بحكم القوانين المحلية والدولية، سارَعَت المؤسسات الحقوقية العاملة في قطاع غزة إلى أخذ إفادتي وتقديم شكاوى رسمية لوزارة الداخلية. وخاطَبَت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم)، كلاً من وزارة الداخلية والأمن الوطني والنيابة العامة في قطاع غزة، مطالبةً بالتحقيق في واقعة الاعتداء الذي تعرّضتُ له، مؤكدة أنه انتهاك للحق في الحريات الشخصية التي كفلتها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ودعا مركز الميزان لحقوق الإنسان، بناءً على الشكوى التي تقدّم بها للنيابة العامة بالوكالة عنّي كضحية، النائب العام إلى فتح تحقيق جدّي وعاجل في الحادث، واتّخاذ المقتضى القانوني، احتراماً لمبدأ سيادة القانون وحماية الحريات الشخصية وصون الحريات العامة، ومنعاً لحدوث أي أحداث مشابهة في المستقل، تحقيقاً لمقاصد القانون وحفاظاً على السلم الأهلي.
مَن تضامنوا معي من جهات نقابية أو حقوقية أو زملاء صحافيين ونشطاء، أعتبر تضامنهم معي دعماً لقضية مشتركة لم تمسّني وحدي بل تمس كل صحافي تعرّض ويتعرّض لمثل هذه الاعتداءات، وإنْ اختلفت الأسباب. والفاعل واحد. هذه ليست القضية الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل نظام العنجهية وقمع الآخر الذي تسجّلت في ظلّه عشرات الانتهاكات بحق الصحافيين والصحافيات على حد سواء.
وكان تقرير صادر عن لجنة الحريات التابعة لنقابة الصحافيين الفلسطينيين، عام 2019، قد كشف “عن تزايد مرتفع بحجم الانتهاكات التي وقعت بحق الصحافيين في قطاع غزة، من قبل الأمن التابع لحركة حماس، حيث تعرض الصحافيون لأشكال عديدة من التعذيب الشديد والإهانة والملاحقة والسجن واقتحام المنازل والضرب والشبح وغيرها من الأساليب المحرمة”.
محبة الناس ووقوفهم بجانبي في هذا الظرف قوّتني وولّدت في داخلي إصراراً على أن أكتب وأتكلم وأقول عبر الإعلام وعلى المنصات الإلكترونية والتلفزيونية أن الصحافي لا يستحق ما يجري من انتهاكات بحقه فهو بحاجة إلى كل تقدير وتسهيل لمهامه، لأنه يضحّي بصحته وعافيته ووقته من أجل الوطن ومن أجل نقل صورة الحقيقة.
أذكر حين توجهت لتغطية مسرات العودة في آذار/ مارس 2018، أنني تعرّضت لانتهاكات كبيرة من الاحتلال الإسرائيلي، من رمي الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي الذي كان ينزل علينا مثل الصاعقة وكل هذا لم أكن أخشاه لكن ما حدث من اعتداء عليّ من ابن وطني الذي يُفترض به حمايتي، أنا وكافة المواطنين، وليس الاعتداء عليّ بسبب مظهري أو لباسي أو شكلي أو لكوني غير محجبة أو غير ملتزمة بالشكل الذي يرغبه، ترك في قلبي غصّة.
ماذا يعني أنني لا أرتدي الحجاب؟
هل أنا مرتدة؟
هل لا أنتمي إلى الدين؟
هل أنا مشكوك في وطنيتي؟
ثم مَن أنت لتقيّمني وتحدد كيف يُفترض التعامل معي.
أنا مصرّة على انتزاع حقي بالطرق القانونية حتى يكون المعتدي عبرة لغيره وحتى لا نجد نحن النساء أنفسنا بعد ذلك وكأننا في دولة الخلافة، حيث يحق لأي كان أن يقيم علينا الحد ليس لشيء سوى لأننا لا نشبهه.
يكفينا أننا نشبه أنفسنا ونشبه إنسانيتنا وآدميتنا وكرامتنا التي لن نفرّط فيها لأي سبب كان.
أنتظر تحقيق وزارة الداخلية وسأظل أتابع ولن أقبل أن تصبح قضيتي رهن الأدراج المغلقة كما غيرها من القضايا والاعتداءات التي سبقتها.