عمران سلمان – الحرة – 9 نوفمبر 2018/
من المثير للتأمل أحيانا تتبع مصير بعض الأفكار أو الاتجاهات أو المدارس السياسية والدينية التي كانت هامشية لفترة طويلة في بعض المجتمعات ثم قفزت بفعل الأزمات أو الظروف العصيبة لتتسيد المشهد ويكون لها تأثيرها الممتد سلبا أو أيجابا على هذه المجتمعات وربما على العالم من حولها.
السلفية الجهادية
تعتبر السلفية في شقها الجهادي على الأقل، أحد الاتجاهات الدينية الحديثة التي لم يكن لها حضور بارز ضمن المدارس الإسلامية الرئيسية طوال التاريخ. تنتمي السلفية الجهادية فقهيا إلى المذهب الحنبلي. ورغم تفرد موقف هذا المذهب من بعض القضايا الفقهية عن باقي المذاهب الإسلامية، إلا أنه لم يكن بهذا التشدد الذي تقوم عليه السلفية الجهادية، وخاصة في نظرتها للآخر الإسلامي وغير الإسلامي. ورغم أنه آخر المذاهب الإسلامية السنية لم يحظَ الحنبلي انتشارا كبيرا، مثل المالكي والشافعي والحنفي.الخميني ومن جاء بعده تمكنوا من تحويل ولاية الفقيه من نظرية، لا تحظى بالإجماع بين الفقهاء الشيعة، إلى مبدأ للحكم في إيران
ولم يعرف عن صاحب المذهب أحمد بن حنبل الذي عاش في بداية الدولة العباسية (ولد في عام 164 هـ وتوفي 241 هـ)، أنه تشدد في موقفه من الحكومات أو سعى إلى تكفير الآخر. ورغم الأذى الجسيم الذي لحق به في عهد المأمون ومن جاء بعده بسبب رفضه لفكرة خلق القرآن والصراع مع المعتزلة الذي ساد ذلك العهد، إلا أنه لم يستخدم إمكانياته الفقهية والكلامية ضد الدولة العباسية نفسها.
المسألة الرئيسية التي ميزت بن حنبل هي التزامه الشديد بالنصوص ورفضه الاجتهاد، وبالتالي يمكن وصفه بالمحافظة أكثر من التشدد.
التطور الأكبر في فكر السلفية الجهادية جاء مع ابن تيمية وتلامذته مثل ابن القيم الجوزية وغيرهم؛ حيث اتسعت رقعة فتاوى “الجهاد” والعداء للآخر، وأعيد تفسير الكثير من الأحاديث والآيات كي تناسب الوضع في تلك الفترة.
وكان يمكن لاتجاه ابن تيمية أن ينتهي بانتهاء حقبته، لولا تبني محمد بن عبد الوهاب (1703م ـ 1791م) لهذا المنهج بعد ذلك بثلاثة أو أربعة قرون، والثروة النفطية التي هبطت على السعودية، وما وفرته من إمكانيات الانتشار والأدلجة.. لو لم يكن ذلك لظل فكر السلفية الجهادية، على هامش المجتمعات العربية والإسلامية التي تميل عموما إلى الاعتدال في تطبيق الأحكام والعلاقة مع الآخر.
ولاية الفقيه
نظام ولاية الفقيه الذي تبنته إيران بعد الثورة عام 1979، نموذج آخر. فولاية الفقيه بمعناها العام، ليست نظرية سائدة في المذهب الشيعي. ومعظم الفقهاء الشيعة لا يتفقون عليها، خاصة في زمن الغيبة الكبرى للإمام الإثني عشر.
وطوال التاريخ لم يسع أي فريق أو فقيه شيعي إلى العمل بها، حتى الدولة الصفوية التي فرضت المذهب الشيعي على غالبية الإيرانيين، لم تلجأ إلى هذه النظرية.
وحده آية الله الخميني اشتغل على ولاية الفقيه وقام بتطويرها (عندما كان منفيا في النجف) لتمكين رجال الدين من الحكم في النظام الجديد في إيران.
يقول آية الله السيستاني إن “الولاية فيما يعبر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقف عليها نظام المجتمع الإسلامي فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط إضافية ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين”.
من جهته، يرى المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله أنه “لم يثبت عندنا ولاية الفقيه العامة نصا، ولكن من الممكن الاستدلال على ذلك عقلا إذا توقف عليها حفظ النظام العام للمسلمين دون ما إذا لم يتوقف على ذلك، لأن حفظ النظام واجب شرعا وعقلا”.
كما يفرق فضل الله بين الولاية العامة والولاية الخاصة “ولاية الفقيه العامة هي أن يثبت للفقيه كل ما ثبت للإمام (ع)، والولاية الخاصة هي ثبوتها في بعض الأمور الحسبية، كالولاية على القصّر والأوقاف، والتصدي للأمور العامة على قاعدة حفظ النظام العام، ونحن لا نرى الولاية العامة للفقيه”.
لكن الملفت أن آية الله الخميني ومن جاء بعده تمكنوا من تحويل ولاية الفقيه من نظرية، لا تحظى بالإجماع بين الفقهاء الشيعة خاصة في صيغتها الشاملة، ولا يمكن العثور عليها بسهولة في أي من المؤلفات الشيعية الرئيسية، إلى مبدأ للحكم في إيران. وقد أعيدت كتابة التاريخ الشيعي لكي يتناسب مع هذه النظرية.
الشعبوية السياسية
الانتقال من الهامش إلى المركز لا يقتصر على الدين فقط فللسياسية أيضا نصيبها من ذلك. ولعلنا شهود على ما يحدث في السنوات الماضية من صعود للأحزاب والتيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
أهم ما يميز الخطاب الشعبوي أنه يلعب على الغرائز البدائية للإنسان مثل الخوف والطمع. وهاتان الغريزتان تحديدا هما اللتان تحركان معظم سلوك وأفعال البشر. في الظروف العادية ثمة مستويات معينة من الخوف والطمع لدى كل إنسان، ولكن الخطاب الشعبوي يرفعها إلى مستويات غير مسبوقة.كان يمكن لاتجاه ابن تيمية أن ينتهي بانتهاء حقبته، لولا تبني محمد بن عبد الوهاب لهذا المنهج بعد ذلك بثلاثة أو أربعة قرون
على سبيل المثال، يتم تصوير وجود الآخر، سواء كان المختلف سياسيا أو دينيا أو الأجنبي أو المهاجر أو اللاجئ ـ وهو الهدف المفضل لدى الشعبويين ـ على أنه تهديد وجودي. وعبر إبراز الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية وإلصاق الصفات المغايرة والسيئة وإطلاق الأحكام المسبقة ضد هذا الآخر، يتم نشر الذعر لدى قطاعات واسعة من السكان.
في الوقت نفسه يستغل الخطاب الشعبوي غريزة الطمع لدى الإنسان، حيث يكثر من الوعود بالإزدهار والرخاء الاقتصادي “المقبل”، وتوفير المزيد من الأموال والخدمات “القادمة في الطريق” لاستمالة قلوب الناس.
وقد ثبت أن هذا التكتيك الشعبوي نجح، حتى الآن على الأقل، في نقل أحزاب وجماعات وشخصيات كانت حتى وقت قريب تعتبر على هامش الحياة السياسية في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وربما منبوذة أيضا، إلى سدة الحكم أو قريبة منه.
على المدى البعيد لا ينجح الخطاب الشعبوي، كما لا تنجح السلفية الجهادية أو ولاية الفقيه في نقل الشعوب خطوة حقيقية إلى الأمام، لكن الضرر الذي تحدثه يكون كبيرا وهو يظل جزءا من التجربة البشرية.. وربما كان ثمنا ضروريا أحيانا كي يتعلم الإنسان أن يتفاداها بعزيمة أكبر في المستقبل.