عمران سلمان – 30 نوفمبر 2018/
قبل أيام كنت أتحدث مع صديق أميركي بشأن التعددية الثقافية وكيف أنها تشكل عامل إثراء وعافية لأي مجتمع، حين لفت نظري إلى مسألة مهمة وهي أن أي عملية لتشجيع التقارب بين الثقافات ينبغي أن تظهر الاعتراف والتقدير لما تتميز به كل ثقافة واعتباره نموذجا للتنوع والاختلاف المفيد وليس مجالا للتنافس أو المباهاة.
ضرورة تقدير التنوع الثقافي
وقد ضرب مثالا على ذلك الثقافة العربية الإسلامية، حيث قال إنها تتميز بخصائص لا تحظى بنفس الأهمية في الغرب، كالاحترام على سبيل المثال.. حيث تتميز هذه الثقافة بحس عال من احترام الصغير للكبير والرجل للمرأة والسليم للمريض والواقف للجالس.. إلخ، بأشكالها المتعددة من ناحية اللفظ والتصرف والفعل، وما إلى ذلك.المجتمعات الأميركية عامة، مع وجود استثناءات قليلة، تحتفي بالثقافات الأخرى
وأن هناك الكثير من العادات الجيدة لدى المجتمعات العربية التي ينبغي إبرازها وتقديرها، مثل الكرم والمروءة وحسن الاستقبال وما إلى ذلك.
في المقابل تتميز المجتمعات الغربية بعادات جيدة هي الأخرى، لا تحظى بنفس الأهمية عندنا، مثل احترام الخصوصية ومراعاة الآخرين، والشفافية والجدية في العمل… إلخ.
وفي الإجمال فإن كل مجتمع يختلف عن المجتمعات الأخرى بعادات وخصال اجتماعية، لها علاقة بموروثه الثقافي والديني والحضاري. وهي بمجموعها تشكل غنى حضاري جميل يتعين التمسك به والتشجيع عليه.
النموذج الأميركي في التعددية
تعتبر الولايات المتحدة أحد البلدان القليلة التي تشجع على التنوع والتعدد الثقافي والديني وتحتفي به. ويشعر القادمون الجدد ما أن تطأ أقدامهم الأراضي الأميركية، بأنهم لا يعاملون بوصفهم غرباء. وبمجرد أن يستقروا في موطنهم الجديد وقبل حصولهم على أية إقامة أو جنسية، فإن الجميع يعاملهم على قدم المساواة مع غيرهم من المواطنين. حتى من يأتون للسياحة فإنهم يشعرون بسهولة التعامل والأريحية في إنجاز معاملاتهم من دون تمييز ومن دون أن يشعرهم أحد بأنهم لا ينتمون إلى المكان.
يعود ذلك لأمرين. الأول أن المجتمعات الأميركية عامة، مع وجود استثناءات قليلة، تحتفي بالثقافات الأخرى، وتعتبر أن وجودها فرصة للتعلم وإغناء تجربتها الإنسانية.
ويشجع الناس هنا القادمين الجديد على الاحتفاظ بعاداتهم وثقافاتهم وأديانهم، فلكي يصبح الإنسان أميركيا، ينبغي أن يكون هو نفسه، ولا يتعين عليه أن يتحول إلى شخص آخر. بمعنى أنه ليس مطلوبا منه أن يغير عاداته أو دينه أو ثقافته.
الأمر الثاني، أنه في أميركا لا توجد قومية على غرار الدول الأخرى. هناك قيم ومبادئ وحقوق تضمنها الدستور الأميركي، ومطلوب من جميع المواطنين التمسك بها والدفاع عنها.
المعارضون للتعددية الثقافية
طبعا كما هو الحال في باقي المجتمعات، توجد في الولايات المتحدة أيضا أقليات سياسية أو فكرية لا ترحب بالتعددية الثقافية وترى فيها خطرا على الثقافة الأميركية.
وهذه الأقلية تنطلق من فكرة أن القادمين الجديد ومع تزايد أعدادهم مع الوقت يساهمون في التغيير الديموغرافي وإضعاف الإرث الأنجلو ساكسوني الذي قامت عليه الولايات المتحدة. ويستشهدون في هذا المجال بالتدفق الكبير للمهاجرين من أميركا الجنوبية حيث يتمسكون بلغتهم الإسبانية وعاداتهم التي نشأوا عليها.
ينبغي القول ابتداء إن هذه المخاوف جزء من الطبيعة البشرية. وهي موجودة في معظم المجتمعات، ولا ينبغي التقليل من أهميتها أو تجاهلها.
بيد أن تفهم دوافعها لا يعني الموافقة عليها. بل يعني ذلك بذل مزيد من الجهد لتبيان أن التعددية الثقافية وإن أتت بمضار أحيانا فإن منافعها تفوق كثيرا مضارها. وبدلا من لغة الإقصاء ونشر الذعر والكراهية تجاه القادمين الجدد، يتعين تعلم كيفية مساعدة هؤلاء على تحقيق أفضل اندماج في الحياة الأميركية.
وفي بلد مثل الولايات المتحدة عانى جميع موجات المهاجرين عبر التاريخ من هذه المخاوف التي أبداها من جاؤوا قبلهم، بما في ذلك القادمون من إيطاليا والبلدان الأوروبية الأخرى.
لكن في النهاية فإن التنوع والغنى الثقافي والديني والاجتماعي، بما في ذلك التنوع في العادات والأطعمة والاهتمامات الذي تعيشه أميركا حاليا يدين بالفضل لهؤلاء المهاجرين وللنظام الأميركي الذي شجع على استيعابهم.
التعددية في المجتمعات العربية
النموذج الأميركي في التعامل مع التعددية الثقافية والدينية، من الممكن أن تستفيد منه المجتمعات العربية في تعاملها مع الأديان والقوميات والطوائف المختلفة.
من المؤسف أن الشرق الأوسط الذي يعتبر موطنا تاريخيا لأقدم الحضارات والثقافات والأديان، قلما يعير أي اهتمام لمكوناته الحضارية. وقد شهدت العقود والقرون الماضية عمليات تهجير ممنهجة للعديد من أفراد الأقليات الدينية أو العرقية، لأسباب ليسوا طرفا فيها.إن الدول العربية تخسر مرتين، بانتهاجها هذا المسلك غير الودي تجاه أقلياتها
وحتى في الدول العربية والإسلامية التي لا يعاني فيها أفراد الأقليات الدينية أو الطائفية من القمع والتضييق، فإنهم يبقون على هامش الحياة في هذه المجتمعات. ومن النادر أن يتم إشراكهم في أي شأن حقيقي يتعلق بتطور بلدانهم.
وعلى الإنسان أن يتساءل لماذا ينبغي على البهائيين أو الأقباط أو الأيزيديين أو غيرهم أن يخفوا هوياتهم أو يتجنبوا إظهار معتقداتهم علنا خوفا من “إثارة” غضب الأكثرية المسلمة.
إن الدول العربية تخسر مرتين، بانتهاجها هذا المسلك غير الودي تجاه أقلياتها؛ المرة الأولى، بخسارتها للإرث الحضاري والثقافي الذي يمثله هؤلاء والذي تراكم عبر مئات أو آلاف السنين، ولا يمكن حقيقة تعويضه. والثانية، أن هذا الموقف السلبي يرتد إلى داخل هذه المجتمعات، على هيئة معتقدات أو آراء تعزز من اتجاهات الإقصاء وعدم التسامح والأحادية في التفكير.
إن الخوف من الآخر، كان على الدوام جزءا ملازما للتاريخ البشري، وهو في أصل النزاعات والحروب، ولدينا مثال في اللغة العربية يلخص ذلك: “الناس أعداء ما جهلوا”.
لكن أي مجتمع لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام، إلا عندما يتجاوز هذه العقدة ويستبدل الخوف بحب الاستكشاف والفضول الإيجابي المفضي إلى قبول الآخر.