عمران سلمان – الحرة – 16 أكتوبر 2020/
إقناع البعض بأن العلمانية ليست معادية للدين، هو مثل محاولة إدخال فيل في ثقب إبرة. يمكننا بالطبع أن نكتب كلمة فيل في ورقة صغيرة ونطويها بشكل رفيع حتى “تتغلغص” في ثقب الإبرة، لكن حتى هذا قد لا يفيدنا مع هؤلاء!
من الواضح أن الموقف من العلمانية له علاقة بالتصورات المسبقة والضخ الأيديولوجي الذي مورس على أجيال عديدة من العرب والمسلمين طوال عقود عديدة.. وما استقر في الأذهان والأنفس هنا مسألتان: الأولى أن العلمانية هي مناقضة للدين وهدفها إخراجه من الحياة، والثانية أن المصطلح غربي وخاص بالدين المسيحي، وبالتالي فإنه لا يصلح للمجتمعات المسلمة.
أكثر من ذلك فإن ماكينة الإسلام السياسي، في شقها الإخواني تحديدا، قرنت العلمانية بالكفر والإلحاد!
قبل مدة كتبت مقالا أناقش فيه مسألة العلمانية، وأرى من المفيد أن استعرض أبرز ما جاء فيه هنا، رغم أن شيئا لم يتغير (ويا للمفارقة) منذ ذلك الوقت.
العلمانية هي الحل
“نعم العلمانية هي الحل، ولكن ليس في مواجهة شعار “الإسلام.. هو الحل”. فالعلمانية ليست موازية للإسلام أو معاكسة له. فهما من جنسين مختلفين. الأول دين بينما الثانية تنظيم مدني.
ولهذا يصدق القول بأن الإنسان يمكنه أن يكون متدينا وعلمانيا في الوقت نفسه. كما أنه ليس كل علماني هو ضد الدين. أو كل متدين هو ضد العلمانية.
قصارى القول إن العلمانية في حقيقتها ليست موجهة ضد الدين، فهي ليست دينا آخر، ولكنها وسيلة لتنظيم العلاقة بين السياسي والديني
وحين نقول إن العلمانية هي الحل، فنحن نقصد أنها حل للصراعات الدينية والطائفية في منطقتنا، ووقف للهدر في الطاقات والإمكانيات ووقت البشر الذي يضيع نتيجة المشاحنات والنزاعات ذات الطابع الديني.
لكن قبل الاسترسال في الحديث من الإنصاف أن نجيب على السؤال التالي: أي علمانية نقصد؟
هل هي تلك التي يقدمها بعض رموز الإسلام السياسي، ويصرون فيها على أنها تعني فصل الدين والشؤون الدينية عن الحياة؟ أي إقصاء للدين من حياة الناس؟
المؤسف أن الغبار الكثيف الذي أثاره ويثيره الإسلاميون (وليس المسلمين) حول العلمانية منذ عقود، تمكن من حجب أهم معانيها وطبيعتها لدى العامة.
عامة الناس أصبحوا بنتيجة حملات التزييف والتضليل يرددون بأن العلمانية هي فصل الدين عن الحياة.
تعريف العلمانية
العلمانية التي نقصدها والتي يفهمها معظم سكان العالم هي فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية (وليس الدين عن السياسة) وبين رجل الدين ورجل السياسة، والعكس صحيح أيضا، أي إبعاد المؤسسة السياسية عن التأثير في المؤسسة الدينية، وإبعاد رجل السياسة عن فرض ميوله الدينية.
هذا هو التعريف الذي نصادفه في جميع المراجع الأجنبية تقريبا. أما المراجع العربية فيندر فيها ذلك.
من الطريف أنني لدى بحثي عن معنى العلمانية وجدت في موقع موسوعة الويكيبيديا على الإنترنيت، أن تعريف العلمانية مختلف في اللغة العربية عنه في الإنكليزية تماما.
في التعريف العربي نقرأ: “تأتي كلمة “علمانية” من الكلمة الإنجليزية “Secularism” (سيكيولاريزم) وتعني إقصاء الدين والمعتقدات الدينية عن أمور الحياة. ينطبق نفس المفهوم على الكون والأجرام السماوية عندما يُفسّر بصورة مادية بحتة بعيدا عن تدخل الدين في محاولة لإيجاد تفسير للكون ومكوناته”.
أما في التعريف الإنكليزي (الترجمة من عندنا) فنقرأ: العلمانية (Secularism) في الاستخدام الحديث يمكن تعريفها إجمالا بطريقتين: الأولى، التأكيد على حرية التدين، وعدم فرض الحكومة لدين معين على الناس، وأن تكون الدولة محايدة في شؤون الاعتقاد، ولا تمنح امتيازات حكومية أو إعانات خاصة لأتباع الأديان.
والثانية، تشير إلى الاعتقاد بأن نشاطات الإنسان وقرارته، لا سيما السياسية منها، ينبغي أن تستند على الأدلة والحقائق، وليس التأثيرات الدينية.
وما يبدو واضحا من المعنيين، هو أن النص الأول يقول إن العلمانية هي إقصاء الدين عن أمور الحياة، وبالتالي فالعلمانية هي ضد الدين وعامل نفي له.
بينما التعريف الثاني يشدد على حياد الدولة في شؤون الدين، وإبعاد الدين عن المجال السياسي.
طبعا بما أن الويكيبيديا هي موسوعة مفتوحة على الإنترنيت ويستطيع أي شخص أن يضيف أو يعدل فيها، فلا استبعد أن ممثلي الإسلام السياسي، أدخلوا مفهومهم للعلمانية هنا أيضا، كما فعلوا في المؤلفات والنصوص الأخرى بالعربية.
بينما لم يتمكنوا من ذلك في النسخة الإنكليزية، ربما لعدم اهتمامهم بالأمر، أو ربما بسبب معرفتهم باستحالة تضليل قراء يعرفون ويمارسون العلمانية في شؤون حياتهم.
التطبيق العملي
هذا على مستوى المصطلح، أما على مستوى الواقع العملي، فنجد أيضا أن ممارسة العلمانية تعني خلاف ما يقوله منظرو الإسلام السياسي.
وسواء في أوروبا أو أميركا فإن العلمانية لم تعن في أي وقت إقصاء الدين عن الحياة. بدليل وجود المؤسسات الدينية من كنائس ومساجد ومعابد يهودية وبوذية وهندوسية… إلخ. وبدليل ممارسة أتباع هذه الاديان طقوسهم بحرية تامة، وفي ظل حماية الدولة.
بل أنه في بلد مثل الولايات المتحدة يجري على الدوام التذكير وإحياء المناسبات الدينية لمعظم الأديان. ويشجع المسؤولون الرسميون سواء على المستوى الفيدرالي أو المحلي الناس على التمسك بعاداتهم وتقاليدهم ذات المنشأ الديني.
كما يقوم المسؤولون بزيارة دور العبادة، والاجتماع مع ممثليها، في لفتات رمزية على الترحيب والاحترام.
وفي المناسبات الوطنية الكبيرة يدعى ممثلو الأديان الرئيسية إلى الحضور وإلقاء كلمات.
وحتى في بلد يوصف بالتشدد في تطبيقه للعلمانية مثل فرنسا، لا يوجد اي إقصاء للدين عن الحياة أو شؤون الحياة.
فهناك أيضا يمارس الناس من مختلف الأديان، بمن فيهم المسلمون، عباداتهم وشؤون دينهم بحرية، وهم منظمون على المستوى المحلي، ولهم جمعياتهم ومؤسساتهم الدينية.
لكن بالطبع في جميع هذه البلدان لا يسمح أيضا بتداخل الديني والسياسي، كما لا يسمح بفرض أي دين أو معتقدات دينية على الآخرين، كما يحظر على الدولة والحكومة أن تحابي دينا معينا حتى ولو كان معتنقوه يشكلون الأغلبية في هذا البلد، أو تميز ضد دين آخر حتى وإن كان أتباعه لا يزيدون على عدد أصابع اليد الواحدة.
والملاحظ أيضا هو أن التدين لا يقل أو يضعف حيث يجري تطبيق العلمانية، كما أنه لم يثبت أن زاد التدين في البلدان التي لا تطبق العلمانية.
أما المتضررون من العلمانية فهم ليسوا عامة الناس، وإنما هم رجال الدين والمؤسسة الدينية. فهؤلاء اعتادوا على مر التاريخ أن تكون لهم سلطة وامتيازات، يستمدونها من موقعهم الديني.
دولة المواطنين
في ظل العلمانية يعود رجل الدين إلى دوره وحجمه الطبيعي، وهو التخصص في شؤون العقيدة وتكون ساحته هي المؤسسة الدينية، ويكون الإنسان ـ المواطن، حر في أن يذهب إلى هذه المؤسسة أو لا يذهب، يأخذ برأي رجل الدين أو لا يأخذ.
العلمانية شرط لا بد منه للانتقال من دولة الأديان إلى دولة الأوطان، ومن دولة المتدينين إلى دولة المواطنين، ولذلك قلنا إنها الحل
وليس للدولة أن تعاقبه أو تحد من حريته لهذا السبب، كما أنه ليس لها أن تكافئه على هذا السلوك. فالدولة محايدة تجاه شؤون العقيدة والاعتقاد.
وقصارى القول إن العلمانية في حقيقتها ليست موجهة ضد الدين، فهي ليست دينا آخر، ولكنها وسيلة لتنظيم العلاقة بين السياسي والديني.
وقد أصبح وجودها ضرورة بعد نشوء الدولة الحديثة، التي باتت تتكون من جمهور المواطنين، بديلا عن جماعة المؤمنين، كما في الدولة القديمة.
ولأن الأساس في المواطنة هو انتماء المواطن إلى الدولة والخضوع لقوانينها، في مقابل حمايتها له، على عكس الدولة القديمة (ما قبل الحديثة) التي كانت تقوم على الانتماء الديني، فإن فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، يهدف في الأساس إلى حماية فكرة المواطنة وترسيخها. أي حماية أحد أبرز الأسس للدولة الحديثة.
ولما كان الأمر كذلك، فإنه تصبح العلمانية شرطا لا بد منه للانتقال من دولة الأديان إلى دولة الأوطان، ومن دولة المتدينين إلى دولة المواطنين، ولذلك قلنا إنها الحل.