عمران سلمان – الحرة – 8 أكتوبر 2020/
بالتأكيد هو في أزمة، وإلا ماذا نسمي كل هذه الحروب والانقسامات وأعمال القتل والإرهاب التي تدور في المنطقة وخارجها منذ سنوات؟ بل ماذا نسمي هذا الاستعصاء والممانعة لدى أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي على الخروج من الصراعات المذهبية والعداء للآخر والحنين إلى الماضي.
تصريح ماكرون
وأن يصرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن “الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”، فتلك لم تكن زلة لسان أو ردة فعل غاضبة على الاعتداء بالساطور الذي نفذه شاب باكستاني في باريس والمحاكمة الجارية في قضية الهجوم على شارلي إيبدو عام 2015 والذي أودى بحياة عدد من موظفيها.
تصريح ماكرون هو تعبير عن صدمة فرنسا من حجم ورقعة الأدلجة والتأثير السلبي والانغلاقي الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي على المجتمعات المسلمة المحلية، والتي تستغل المساجد والمنابر والقوانين لهذا الغرض. وإن شئت قل إن تصريح ماكرون يعبر عن فيضان كيل فرنسا مما وصل إليه الحال هناك من نشر للأفكار المتطرفة والتأسيس المنظم للجماعات التي تعمل بالضد من قوانين وثقافة هذه الدولة.
لم يكن عصيا على الفهم أن الجماعات التي تعارض نشر العلمانية والحداثة وتناهض الحريات العامة والخاصة في المجتمعات العربية هي نفسها التي انتقدت تصريحات الرئيس الفرنسي
والقول بأن الإسلام يعيش أزمة المقصود به ليس الدين نفسه (فالدين، أي دين لا يفعّل نفسه إلا من خلال البشر الذي يؤمنون به) وإنما عجز المجتمعات المسلمة عن إنتاج ثقافة دينية متصالحة مع العصر ومع القيم المجتمعية الحديثة. عجزها عن إنتاج خطاب متسامح يقبل التعايش مع الآخر، ولا يرى في نفسه تفوقا على الآخرين.
الرهاب المرضي
في الغرب توجد مجتمعات دينية كثيرة ومتنوعة، صغيرة وكبيرة، بعضها مغلق على أتباعه وبعضها منفتح على الغير، لكن من النادر أن تجدها في حالة تصادم أو تعارض مع ثقافة وقوانين هذه الدول. وبالطبع لن تجد أيا من أفرادها يخرج على الناس بساطور يريد أن يقتل من يصادفه في الشارع وهو يصيح “الله أكبر” أو يقود شاحنة لدهس المارة الذين صادف أنهم كانوا يتنزهون في إحدى الحدائق في يوم عطلة أو بعد يوم عمل شاق.
فرنسا، شأنها شأن العديد من الدول الأوروبية، عاشت في سبات عميق وغير واعية لما تشكله جماعات الإسلام السياسي من خطورة على السلم الأهلي. كان التركيز كله منصب على الجماعات المسلحة مثل “القاعدة” و”داعش” وحزب التحرير وغيرها.
لم ينتبه هؤلاء إلى أن جماعات الإسلام السياسي من إخوان مسلمين وسلفيين وغيرهم، لا يقلون خطورة عن المسلحين إن لم يكونوا أكثر منهم خطورة. لأنه في حين يمكن رصد وتحييد العناصر المسلحة فإن هؤلاء يمارسون عملهم بحرية في ظل القوانين والتشريعات النافدة. بل ويستغلون ذلك الرهاب المرضي المنتشر في بعض المجتمعات الغربية من كل انتقاد يوجه للممارسات الدينية غير المنضبطة، خوفا من أن يفسر ذلك على أنه انتقاد للإسلام.
يكرهون العلمانية
ما يثير استغرابي، وأتصور أنه يثير استغراب القارئ أيضا، هو أن الدول الأوروبية عرفت عصر التنوير بعد حروب دينية وطائفية طاحنة، وخرج منها فلاسفة ومفكرون ودعاة للدولة المدنية وحرية الاعتقاد وفصل الدين عن الدولة، هل يعقل أن تسمح بأن تعشعش فيها جماعات ظلامية ومعادية للعلمانية والتنوير وتريد إعادة الاعتبار للمؤسسة الدينية وللدين في الحياة العامة؟ هذا أمر لا يصدق.
تصريح ماكرون هو تعبير عن صدمة فرنسا من حجم ورقعة الأدلجة والتأثير السلبي والانغلاقي الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي على المجتمعات المسلمة المحلية
إن العلمانية كفلت الحرية الدينية وممارستها للجميع، وجعلت المسافة متساوية بين الدولة والأديان والاعتقادات كافة، بل أنها كفلت الدعم والرعاية من قبل الدولة لدور العبادة ومنحتها مميزات كثيرة.
ومع ذلك يرفض الإسلاميون العلمانية، والسبب هو ليس لأنها معادية للدين كما يقولون، فمن الواضح أنها ليست كذلك، وإنما لأنها ـ وهذه هي الحقيقة التي ينبغي التركيز عليها ـ تحرم جماعات الإسلام السياسي من تحقيق طموحها في إقامة الدولة الدينية وفرض سلطتها السياسية. بل هي تحرم هذه الجماعات من إمكانية التحكم والتسلط على رقاب المسلمين وغسل أدمغتهم. ومعظم الحملات التي شنت على العلمانية في العالم العربي خلال العقود الماضية إنما جاءت من دعاة يمثلون هذه الجماعات بشكل أو بآخر.
آن له أن يتوقف
لهذا لم يكن عصيا على الفهم أن الجماعات التي تعارض نشر العلمانية والحداثة وتناهض الحريات العامة والخاصة في المجتمعات العربية هي نفسها التي انتقدت تصريحات الرئيس الفرنسي.
فإضافة إلى مؤسسة الأزهر، التي أصبحت خارج نطاق العصر منذ زمن بعيد، خرج ما يسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” وهو منظمة إخوانية، ترعاها وتستضيفها وتصرف عليها دولة قطر، ليكيل الاتهامات للرئيس الفرنسي. بل أن أمينها العام “علي محي الدين القرة داغي” صدق نفسه أو نسيها بالأحرى، وهو يقول “السيد الرئيس ماكرون: أنتم في أزمة، أزمة انتكاس أخلاقي وإنساني وسياسي… نحن نشفق على حاكم ما زال يعيش أزمة وشبح حروب دينية، يعيش في قرونها الوسطى ونحن في القرن الحادي والعشرين. الإسلام حقائق وجودية خالدة تملك حلا للمشاكل المستعصية على السلطات، فهو دين الله وليس نظام حكم يعتمد على مزاج الناخبين ولا تزييف الوعي”.
طبعا ليس من الصعب التخمين من يعيش في القرن الحادي والعشرين ومن لا يزال يعيش في القرن السابع الهجري، لكن الأمر المؤكد هو أن إسلام المتطرفين والإخوان المسلمين لا يعيش في أزمة، لأنه يحصل عل التمويل من قطر والرعاية من تركيا، والنفوذ من جماعات الإخوان المتلونة التي يسمح لها الغرب بالعمل والنشاط على أراضيه واستغلال قوانينه ومنظوماته المالية. وهو أمر آن له أن يتوقف.