الكفر والإلحاد والكائنات الخرافية!

عمران سلمان- الحرة – 4 سبتمبر 2020/

الكفر والإلحاد.. كلمتان لطالما سببتا الرعب وبثتا الذعر في نفوس الناس، على مر التاريخ، رغم أنهما مجرد كلمتين لا تعنيان شيئا خارج السياق الذي تأتيان فيه، فهما مثل “الشيفرة” التي يمكن أن تعني أشياء مختلفة بالنسبة لأناس مختلفين في أوقات مختلفة.

خارج التداول

لكن التأمل فيهما عن قرب يجردهما من “حمولتهما” ومن القوة الرمزية اللتان تتمتعان بها. ففي حين أن العمل المراد وصمه بالكفر، قد يعني مجموعة مؤلفات أو أبحاث أو تجربة شخصية استغرقت من صاحبها سنوات طويلة وجهود ذاتية حثيثة، فإن مطلقي الوصف يختزلون ذلك كله في كلمة واحدة وهي “الكفر”، وهو أمر مضحك فعلا، كما لو أن هؤلاء يمتلكون عصا سحرية مفتاحها كلمة واحدة!

طبعا في الزمن القديم، كان لهذه الكلمة مفعولها السحري والمدمر أيضا، أما اليوم فقد عادت إلى حجمها الحقيقي وهو أنها ليست أكثر من مجموع حروفها. وفي الكثير من مجتمعات العالم الحديثة، أصبحت خارج التداول أساسا، ولا تذكر إلا بالارتباط مع الدين أو عند الحديث عن التاريخ أو ذكر الأحداث الشاذة والمفزعة.

ولسبب ما كلما وقعت عيني على كلمتي “الكفر” و”الإلحاد”، أتذكر أسماء المخلوقات الخرافية، التي كانت أمهاتنا تخترعها ونحن أطفال من أجل إخافتنا، إما لمنعنا من الخروج من المنزل وقت الظهيرة أو لردعنا عن القيام بسلوك معين ـ وأعتقد أنها موجودة لدى معظم المجتمعات العربية، وإن بأشكال وأسماء مختلفة. في الطفولة كانت هذه الكلمات تسبب الرعب، ولكن بمجرد أن يكبر الإنسان فهو يضحك منها لأنه يكتشف حقيقة تلك الكلمات وأنها كانت مصممة لمرحلة عمرية معينة، وخلاف ذلك فهي لا تعني شيئا.

الإلحاد والإيمان

في كتابي “من الدين إلى الروحانية” الذي صدر حديثا عن دار الخيال للطباعة والنشر في بيروت، تحدثت مطولا عن “الإلحاد بالله” وفي رأيي إنه ليس هناك إلحاد في حقيقة الأمر، لأن الإنسان لا يمكنه أن يلحد بشيء لا يعرفه أو لا سبيل إلى معرفته. وحتى تلك المعرفة الشكلية التي قد يتحدث عنها بعض الناس، فهي في الغالب ليست متأتية من تجربة شخصية وإنما مما قرأه الإنسان في الكتب أو استعاره من آخرين. كذلك ليس هناك “إيمان” حقيقة لأن الإنسان لا يمكنه أن يؤمن بشيء لا يعرفه على وجه اليقين. ما يؤمن به هنا هو مجرد صورة متخيلة لما قرأه أو سمعه، وحتى هذه الصورة تتغير باستمرار أيضا نتيجة الحذف والإضافة.

والحال أن كل ما يفعله أولئك الذين يحاولون إثبات وجود الله أو الذين يحاولون نفي وجوده، هو أنهم يمارسون نوعا من “الضجيج” الذهني، إذا جاز التعبير، الذي لا يتعدى حدود الحواس، وهو لا يندرج في الأغلب في إطار المعرفة والإدراك، وإنما في صلب “المحاججة” والمفاضلة والمغالبة والانتصار لـ “الأنا” والهوية في الإنسان.

الفيل والعميان

هذا يذكرني بالقصة الهندية المشهورة عن العميان الستة والفيل. وهي تروى بطرق مختلفة، لكن أشهرها على النحو التالي:

“سمعت مجموعة من العميان أنه تم إحضار حيوان غريب يسمى فيل إلى البلدة، لكن لم يكن أي منهم، بطبيعة الحال، قد رأى فيلا من قبل أو علم بشكله أو حجمه. فقالوا بدافع الفضول: “يجب أن نفحصه ونعرفه باللمس، فنحن قادرون على ذلك”. لذلك، بحثوا عنه، وعندما وجدوه أخذ كل منهم يلمسه من الجزء الذي وقف عنده. قال الأول الذي وقعت يده على الجذع: هذا الكائن مثل ثعبان كثيف. شخص آخر وصلت يده إلى أذن الفيل، فبدت له وكأنها نوع من المروحة. وأما شخص آخر فقد وقعت يده على رجله، فقال: الفيل عمود مثل جذع الشجرة. الأعمى الذي وضع يده على جنبه قال الفيل عبارة عن “جدار”. آخر أمسك بذيله ووصفه بأنه حبل. أما الأخير فقد تحسس نابه، فقال إن الفيل هو صلب، وأملس كالرمح”.

طبعا كل واحد منهم يعتقد أنه قد عرف الفيل وهو مستعد أن يشرح معرفته لكل من يصادفه، بل ويجادل بأنه على صواب وأنه يعرف الفيل على وجه اليقين، ولن يتوان عن اتهام كل من يخالفه بالكذب والجهل وتعمد إخفاء الحقيقة.

بطون التاريخ

خلاصة الحديث هو أن كلمتي الإلحاد والكفر، استخدمتا عبر التاريخ بمثابة حكم نهائي/أو ذروة الحكم على تجربة ما، في حين أن الكلمتين هما أبعد من أن تمثلا شيئا قائما بذاته.

وهنا ينبع السؤال المهم، وهو هل ينبغي ابتداء تجريد الكلمات من مدلولاتها وحمولاتها الدينية أو التاريخية، أم انتظار تغيير السياق نفسه، كي تفقد الكلمات المعاني الدالة على ذلك من تلقاء نفسها؟

أعتقد أن الاشتغال ينبغي أن يكون في الناحيتين. لكن ما يساعدنا على نحو خاص هو أن السياق يتغير باستمرار عبر الزمن، وسيكون من المؤسف أننا نسمح للكلمات بان تحتفظ بنفس مدلولاتها وتأثيرها المروع، كما في حالتنا هذه، حتى مع تغير السياق.

والحال أن كلمة مثل “الكفر” قد فقدت السياق الذي ولدت واشتغلت فيه منذ أمد بعيد، وربما حان الوقت لإعادتها إلى بطون التاريخ، ولا يكون حالها بأفضل من حال الأشباح والكائنات الخرافية التي اعتادت الأمهات أن تخيف بها أطفالهن حينما يعجزن عن السيطرة على سلوكهم.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *