بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 8 أبريل 2022/
من بين الأخبار اللافتة الأسبوع الماضي الإدانة التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للهجمات الإرهابية الفلسطينية الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 11 إسرائيليا، والتي وصفها بالمقيتة. وجاء ذلك في اتصال هاتفي أجراه إردوغان بنظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ (1 أبريل 2022) لتعزيته بالضحايا.
وبذلك انضم إردوغان إلى كل من الإمارات والبحرين ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية، الذين نددوا بتلك الهجمات.
وأقول كانت لافتة، لأن محور “الإخوان” الذي تتزعمه تركيا (ليس معروفا بعد ما إذا كانت لا تزال تتزعمه أم لا) قد أشاد (كعادته) بتلك الهجمات وطبّل لها وزمّر واعتبر منفذيها “شهداء” وأحياء عند ربهم يرزقون!
لذلك فأن تأخذ تركيا منحا مختلفا هذه المرة لهو أمر له دلالته بكل تأكيد.
وما يدعم ذلك أن الخطوة التركية تأتي في ظل سياق أوسع يسعى من خلاله أردوغان حسبما يبدو إلى العودة بالسياسة الخارجية لأنقرة إلى مرحلة ما قبل “الهيجان الإخواني” والتي كان لها الفضل في المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققتها تركيا خلال تلك السنوات. وهي السياسة التي تميزت بالعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة من إسرائيل وحتى مصر ودول الخليج.
وتعطينا ردود الفعل الإخوانية بالذات على هذه التغيرات فكرة عن المدى الذي ذهبت إليه.
ففي تعليقه على تحسن العلاقات التركية الإسرائيلية، والزيارة التي قام بها الرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة الشهر الماضي، قال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – الذراع الدعوي للإخوان المسلمين والذي يتخذ من العاصمة القطرية الدوحة مقرا له – إنه فوجئ بزيارة الرئيس الإسرائيلي والاستقبال الرسمي الذي خصته به الرئاسة التركية، كما اعتبر في بيان له (10 مارس 2022) الزيارة “خطوة تطبيعية مرفوضة ومدانة”.
وقد سارت على خطى الاتحاد في إدانة الموقف التركي حركة حماس والجهاد وغيرها من التنظيمات الإسلامية أو التنظيمات القريبة منها أو تلك التي تدور في فلكها.
لكن الملاحظ أن السلطات التركية لم تكترث كثيرا لهذه الانتقادات “الإخوانية”، إذ يبدو أن قرارها باستعادة العلاقات الطبيعية مع إسرائيل قد اتخذ وفق قراءة استراتيجية ولم يكن خطوة تكتيكية.
ومن المتوقع – بحسب الأنباء – أن تشهد الأيام المقبلة زيارة مماثلة من قبل الرئيس التركي لتل أبيب لبحث عدد من القضايا الاقتصادية والسياسية بين الطرفين.
كما أعلن وزير الخارجية التركية مولود تشاويش أوغلو (31 مارس 2022) أنه سيقوم بزيارة إلى إسرائيل في منتصف شهر مايو القادم، وأنه سيناقش خلال اجتماعه مع نظيره الاسرائيلي إعادة متبادلة للسفراء بين البلدين والتعاون على إقامة أنبوب غاز.
لكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو لماذا قام الرئيس التركي أردوغان بهذه الاستدارة والتي لم تتوقف عند إسرائيل وإنما طالت أيضا تحسين العلاقات مع عدد من الدول العربية مثل مصر والسعودية والإمارات؟
هناك بالطبع أسباب لذلك، وهي لا تخفي على أحد، على رأسها السبب الاقتصادي. فقد اكتشف إردوغان وحزبه أن لسياسة التوسع الإقليمي ودعم حركات الإسلام السياسي والتخريب في المنطقة ثمن اقتصادي باهظ. وقد عانت تركيا من هذه السياسة بصورة واضحة ومباشرة في السنوات الأخيرة ولا تزال تعاني منها. حيث أصيبت الليرة التركية بالأنيميا وخسرت أكثر من نصف قيمتها كما ارتفعت نسب التضخم بصورة غير مسبوقة وجرى استنزاف احتياطي العملات الأجنبية، وفي الإجمال بات الغموض العام يلف مستقبل الاقتصاد التركي ككل.
وقد حاول إردوغان أن يراوغ ويكابر ويتدخل بنفسه في السياسات الاقتصادية، بما في ذلك تحديد أسعار الفائدة، لكنه اكتشف أن ذلك لا يجدي نفعا. فحين تفقد المؤسسات الدولية والشركاء التجاريين والقوى المؤثرة ثقتها في سياسات دولة ما فهذا يعني أن اقتصادها معرض للانهيار.
السبب الآخر هو أن ثمة واقع إقليمي جديد بدأ يتشكل في المنطقة من بين أبرز ملامحه التحالف الناشئ بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، والذي كان نموذجه المصغر هو قمة النقب التي جمعت إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب ومصر والولايات المتحدة. وهذا النموذج الذي يتوقع أن يتطور مستقبلا ليشمل السعودية أيضا وغيرها من الدول العربية، لن يتوقف عند الجانب العسكري أو الأمني وإنما يتعداه إلى الجانب الاقتصادي. وبالتأكيد فإن آخر ما تريده تركيا هو أن تجد نفسها على هامش هذا الواقع.
لكن أيا يكن السبب الذي يقف وراء الاستدارة التركية فهي خطوة تنم عن الحصافة والتقدير السليم للموقف، وهي ليست خطوة معتادة من الرؤساء المستبدين، لكن الحالة التركية تبدو مختلفة لأنه هناك عملية ديمقراطية وانتخابات برلمانية وأحزاب معارضة، وهذا كله يمنع الرئيس التركي إردوغان من التمادي على نحو ما يفعله الرئيس الروسي اليوم أو ما فعله صدام حسين، على سبيل المثال لا الحصر. وبالتالي فإن الواقع الديمقراطي التركي والنظام العلماني يفرضان على أي سياسي تركي قيودا وحسابات يصعب تجاهلها.
ومن شأن جنوح السياسة التركية نحو الاعتدال أن ينعكس إيجابا على بعض الملفات الساخنة في المنطقة، ولا يستبعد أن يكون هو الذي أقنع حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من التنظيمات الإرهابية بالامتناع خلال الأيام الماضية عن تفجير الموقف مع إسرائيل عبر إطلاق الصواريخ من قطاع غزة.