بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 17 ديسمبر 2021/
لا وجود لديمقراطية من دون علمانية، رغم أن العكس ليس صحيحا. بمعنى أنه توجد أنظمة علمانية، ولكنها ليست بالضرورة ديمقراطية.
الديمقراطية تفترض بالأساس وجود مواطنين متساوين. وفي المجتمعات القائمة على الدين لا يمكن ضمان تحقيق ذلك، لهذا نحن بحاجة إلى العلمانية، لأن العلمانية تعيد الدين إلى حيزه الفردي والشخصي وتنقل الإنسان وقضاياه إلى المجال العام.
في غياب العلمانية ربما يكون هناك مواطنون، ولكنهم غير متساوين. فهناك مسلمون وهم في منزلة أعلى بحكم أن الإسلام هو دين الدولة، وهناك سنة أو شيعة أو دروز أو علويون أو غيرهم، بحسب نظام الحكم، وكل من هؤلاء في منزلة مختلفة عن الآخر.
ثم هناك من يطلق عليهم أهل الكتاب من المسيحيين واليهود، وهناك أيضا من يصنفون على أنهم من المشركين أو من يسمون بأتباع الديانات غير السماوية، وهناك أيضا الملحدون أو من لا دين لهم وهكذا.
هذه التصنيفات ستحضر بقوة حينما لا يكون نظام الدولة علمانيا، لأن لكل هوية من هذه قيمة مرجحة أو غير مرجحة، أما في النظام العلماني فلا أحد يهتم بهذه التصنيفات، لأنه لا مكان لها في الحيز القانوني أو السياسي العام.
قد يحتج البعض بالقول إن هؤلاء كلهم مواطنون ومتساوون بحسب ما تنص عليه الدساتير والقوانين في المجتمعات العربية والإسلامية. هذا القول ربما يبدو صحيحا نظريا وظاهريا، لكن عمليا على أرض الواقع وعندما يُفسَّر الدستور وتفعّل القوانين واللوائح التنفيذية، يتكشف الأمر على حقيقته.
فلا توجد مساواة، وإنما غلبة للعنصر الديني السائد في هذه المجتمعات. والكل يشاهد ويعايش ويعاين بأنه في الدولة التي يسود فيها الدين المجال العام، فإن الحديث عن المساواة هو مجرد أضغاث أحلام.
وحتى يتم تطبيق العلمانية في الدول العربية والإسلامية، ويتم إخراج الدين من المجال العام، فإنه لا يمكن الحديث عن قيام ديمقراطية أو نضال من أجل الديمقراطية.
وقد أوضحت في مقالات سابقة (بنتيجة ذلك) أن الصراع الذي يدور في المنطقة العربية اليوم هو ليس بين ديمقراطيين ومستبدين، ولكنه صراع على السلطة والثروة، بين قبائل وطوائف وأتباع أديان وجماعات سياسية متعددة متعارضة في المصالح والمطامح. والديمقراطية هي العنصر اليتيم الغائب في هذا الصراع.
هذا الصراع كانت تحسمه في السابق الانقلابات العسكرية أو الاحتجاجات العنيفة في الشوارع وأحيانا الاغتيالات السياسية، أما اليوم فقد تعلمت هذه المجموعات أنه يمكنها أن تحقق ما تريد بتكلفة أقل عبر صناديق الاقتراع، حتى وإن اضطرت لمشاركة آخرين معها. ولذلك شهدنا هذا الحماس في أوساط جماعات وتيارات سياسية ودينية لا تؤمن بالديمقراطية، ولكنها تصر على مسألة الانتخابات وتعتبرها مطلبا ملحا.
وهكذا، فإن الانتخابات في البلدان العربية ليست علامة على الديمقراطية، ولكنها علامة على استعداد مختلف الفرقاء في العملية السياسية على مشاركة السلطة والنفوذ بصورة سلمية، قد لا ترضي نتيجتها الجميع، ولكنها تظل مرحلة أرقى بطبيعة الحال إذا ما قورنت بالحلول الدموية والعسكرية والاضطرابات السياسية.
ولذلك فالحديث الذي يردده البعض عن “نضال الشعوب العربية منذ الاستقلال في منتصف القرن الماضي من أجل الديمقراطية والحريات السياسية والعدالة الاجتماعية”، بما في ذلك فترة ما يسمى “الربيع العربي”، هو مجرد أوهام وخرافات لا أساس لها. المقصود من إطلاقه هو فقط مغازلة الدول الغربية بهدف إقناعها بدعم هذه الجماعة السياسية المعارضة أو تلك في بعض الدول العربية ومساعدتها على الوصول إلى السلطة.
إذ لا يمكن إقناع هذه الدول بالتدخل، إلا من خلال استخدام شعارات مثل الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وما شابه، بينما الحقيقة هي أن الجماعات السياسية المعارضة لا تؤمن بأي من هذه القيم.
لنتذكر أن معظم الشخصيات التي كانت تقدسها الجماهير العربية على مدى العقود الماضية، إما شخصيات مستبدة ومعادية للديمقراطية أو شخصيات عسكرية أو فاشية، من جمال عبد الناصر وحتى صدام حسين وما بينهما من زعماء الميليشيات والجماعات المسلحة والإرهابية.
وحتى اليوم فإن المرجعية لغالبية الجماعات السياسية في المنطقة، هي إما مرجعية دينية، أو قومية، أو شعبوية، وغالبيتها لا يؤمن بالديمقراطية أو حقوق الإنسان، خاصة إذا كان هذا الإنسان مختلفا في الدين أو الطائفة أو الأيديولوجية أو الجنس أو اللون أو الانتماء القبلي والعشائري.. إلخ.
قصارى القول إذا إنه من دون علمانية لا يمكن الحديث عن ديمقراطية في الدول العربية والإسلامية، وأن من يرفض العلمانية لا يمكنه في الواقع أن يكون ديمقراطيا أو جادا في المطالبة بها، لكن يمكنه بطبيعة الحال أن يتخفى في ثيابها كما يتخفى الذئب في ثياب الحمل.