بقلم/ عمران سلمان – قناة الحرة – 27 أغسطس 2021/
من الصعب الجزم ما إذا كان جميع الذين فروا من مطار كابل فعلوا ذلك خوفا من مسلحي حركة طالبان. من المؤكد أن بينهم من كان يخشى انتقام الحركة، وبينهم من كان يكره توجهاتها العقائدية وفهمها للإسلام، وبينهم من كان قد فقد الأمل في حياة ذات معنى في أفغانستان، وبينهم من وجدها فرصة سانحة للهجرة لأسباب اقتصادية وأراد استغلال النافذة المفتوحة لبدء حياة جديدة في مكان ما من العالم.
وهؤلاء ليسوا هم الوحيدون الذين يريدون ترك أفغانستان. هؤلاء فقط هم الذين يسمونهم بالمحظوظين، أي الذين لديهم جوازات سفر صالحة وتأشيرات دخول وربما وثائق تثبت أحقيتهم في الحصول على اللجوء أو الهجرة وما شابه.
وهؤلاء هم الذين تمكنوا أيضا في نهاية المطاف من الوصول إلى مطار كابل حيث سمحت لهم ميليشيات طالبان بذلك. لكن هناك أضعافهم لا زالوا ينتظرون خارج أسوار المطار من دون أي فرصة لمغادرة البلاد.
وهناك عشرات وربما مئات الآلاف من الأفغان الذين تركوا البلاد في الأسابيع والأشهر الماضية مع بدء انسحاب القوات الدولية، وهؤلاء اتخذوا طريق الهروب التقليدي بعيدا عن وسائل الإعلام، كما يفعل اللاجئون عادة، وهم يتوزعون اليوم في تركيا وإيران وبعض جمهوريات آسيا الوسطى، وجلهم ينتظر فرصة المغادرة إما إلى الدول الأوروبية أو الولايات المتحدة أو كندا.
وهؤلاء وأولئك ليسوا سوى دفعة من بين دفعات تقذف بهم أفغانستان نحو الخارج منذ أن نكبت بالانقلابات والثورات والجهاد والتمرد الإسلامي المسلح.
وحين يفر الناس من بلد على هذا النحو، فمن المؤكد أن ذلك يدل على شعورهم بأنه لا مستقبل لهم فيه وأن القادم يخبئ الأسوأ، وأنه لا تكفي التطمينات أو الوعود التي تطلق على شاشات التلفزيون لتبديد المخاوف والقلق.
والواقع أنه لم يثبت قط أن تحسنت الأوضاع في أي بلد فر منه سكانه بهذه الأعداد. على العكس من ذلك، السنوات التي تلي عادة ما تثبت صحة حدس هؤلاء. فغالبا ما تسوء الأوضاع ولا تتحسن. وغالبا ما يجد الذين بقوا أنفسهم محاصرين وغير قادرين على تدبير أمورهم ويتطلعون هم أيضا إلى الخروج عند أقرب فرصة.
والمقصود بتحسن الأوضاع هو قدرة الإنسان على العيش في ظل مستوى مقبول من الحرية والكرامة والحقوق وتأمين الحاجات الأساسية.
لنأخذ إيران مثلا. فمنذ الأيام الأولى لانتصار الثورة ووصول الخميني إلى الحكم، فر مئات آلاف الإيرانيين بجلودهم إلى مختلف القارات وخاصة أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا. هم لم يفعلوا ذلك لأنه كانت لديهم بالضرورة خصومة مباشرة مع النظام الجديد، وإنما لأنهم أدركوا بأن لا مستقبل لهم أو لأبنائهم في ظل هذا النظام.
وقد أثبتت السنوات التي تلت الثورة أن البلاد قد انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة اقتصاديا ومعيشيا، مع انتشار القمع الديني والاضطهاد السياسي والإعدامات، واستمرار العقوبات الاقتصادية والصدام المستمر مع المجتمع الدولي.
ولو أتيح المجال للإيرانيين اليوم للخروج والهجرة لما تردد الكثيرون منهم في فعل ذلك.
والانحدار الذي حدث في إيران، حدث مثله في العديد من الدول العربية كالعراق ولبنان وسورية، وليبيا، واليمن، وغيرها.
ففي العام الذي قامت فيه الثورة الإيرانية (1979) كانت الهوامش الاقتصادية وكذلك هوامش الأمن والاستقرار في هذه البلدان أفضل بما لا يقارن اليوم. وبالطبع لم يكن الناس يهربون وقتها من هذه البلدان على نحو ما يفعلون اليوم، وإن كان حبل الهجرة لم ينقطع قط.
لكن تبين أن العالم العربي كان كل عام يقترب درجة نحو الهاوية. ولم يحدث ذلك بسبب الأداء السياسي والمغامرات العسكرية فحسب، ولكن أيضا بسبب التراث الديني والثقافة السائدة وسيطرة الشعارات والسلوكيات المدمرة.
لو أخذنا لبنان على سبيل المثال، فإن الدمار الذي يعيشه لم يبدأ اليوم، ولكن منذ أن قرر أن يكون بلدا “مقاوما”! بدأ ذلك حين استضاف المسلحين الفلسطينيين بعد خروجهم من الأردن، ثم مع إنشاء الميليشيات المسلحة المختلفة، وصولا إلى قيام الحرس الثوري الإيراني بتأسيس حزب الله. هكذا سار لبنان تدريجيا على طريق التسلح والأدلجة والعقائد المبجلة للعنف والجاذبة لكل أشكال الخراب والإفقار.
وحين يضع بلد نفسه تحت تصرف الميليشيات ومنطقها، فهو بالضرورة يغادر منطق الدولة، التي لن تلبث أن تتآكل، ثم تتحول هياكلها إلى مجرد غطاء لتلك الميليشيات.
وحين يتحول بلد إلى ميليشيا فسوف يعامله العالم على هذا الأساس. لن ينخدع المجتمع الدولي ولا المؤسسات المالية بالصورة المغايرة للواقع التي تحاول أن ترسمها هذه الدولة أو تلك لنفسها. ناهيك عن أنه من الصعب، إن لم يكن من باب الاستحالة، التعامل السياسي أو الاقتصادي الطبيعي مع دولة تسيطر عليها الميليشيات.
ولبنان لا يختلف اليوم عن أفغانستان سوى في الدرجة وليس في النوع (كلا البلدين تسيطر عليه ميليشيا وكلا البلدين يستضيف منظمات إرهابية وكلا البلدين يزرع ويصدر الحشيش والمخدرات وكلا البلدين موصوم بالفساد.. إلخ).
ورغم تعقيد وضعه فإن لبنان ليس سوى تنويعا للعديد من الدول في المنطقة التي إما أنها فاشلة أو تتجه نحو الفشل (بصورة صريحة أو ضمنية) لذات الأسباب التي ذكرناها. وإذا كان البشر يفرون اليوم من هذه البلدان وحدانا وزرافات، إما عبر البحر أو البر أو الجو، فإن المستقبل للأسف لن يحمل معه سوى المزيد مما يحدث حاليا وعلى نحو مضاعف.