بولا تافرو – رصيف 22 – 11 أبريل 2021/
هل حدث أن صادفت شخصاً مسافراً جلس بجانبك في الطائرة واكتشفت بعد محادثة عابرة بينكما أنّ هذا الشخص هو ضحيّة للإتجار بالبشر؟
في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2017، وبعد إتمامي تقييم برنامج إنمائيّ في شمال نيجيريا، كنت في طريق عودتي إلى لوس أنجلس. كانت رحلتي طويلة جداً وتخلّلتها فترة انتظار طويلة في مطار القاهرة من الساعة التاسعة مساءً حتى الثانية بعد منتصف الليل.
أثناء رحلتي من “أبوجا” إلى القاهرة، جلسَت بجانبي في الطائرة فتاة نيجيرية صغيرة الحجم، كانت ترتدي ثوباً أسود منقّطاً وحجاباً على رأسها. علمت بعد حين أنها في الرابعة والعشرين من العمر بالرغم من أن تصرّفاتها الخجولة جعلتني أجزم أنها فتاة في عمر المراهقة. عندما لاحظت بأنها تواجه صعوبةً في استخدام الطاولة الصغيرة أمامها، أيقنت بأنها تسافر بالطائرة للمرة الأولى في حياتها.
عندما اقتربنا من نهاية الرحلة، سألتها إذا كانت تعتزم زيارة أقارب لها في القاهرة. ابتسمت بارتباك وقالت: “لا، أنا في طريقي إلى المملكة العربية السعودية”. عدت فسألتها مرة أخرى إذا كان لها أقارب في السعودية، فهزت رأسها بالنفي.
إنها ذاهبة للعمل. كان أحد أصدقاء طفولتها قد أرسل إليها رسالة على تطبيق “واتساب” بخصوص فرصة عملٍ في المملكة وقد اغتنمت الفرصة على الرغم من أنها كانت دائماً تحلم بأن تصبح مصممة أزياء. أخرجت هاتفها المحمول لتُريني صوراً لنساء بأثواب زاهية الألوان وقالت بفخر: “أنا صنعتها”.
“ألا تعرفين أحداً في السعودية؟”، سألتها بإلحاح. هزّت رأسها بالنفي، والحقيقة أنها لا تتكلم العربية إطلاقاً. للتوّ بدأتُ باستجوابها: “ما نوع العمل الذي ستقومين به هناك؟ وما المدّة؟ وهل لديك عقد عمل؟”. تمتمت قائلةً إنها تعتقد أنها ستعمل كمربية أطفال ولكنها ليست متأكّدة. ثم أردفت: “أظن أنني سأبقى هناك سنةً واحدة”. ولكن ليس لديها أيّ عقد عمل خطيّ أو رسمي.
“هل لديك تذكرة ذهاب وعودة؟”، سألتها مستفسرةً. نظرت إليّ بحيرة. لم تكن تعلم ماذا عنيت. بحثت في حقيبة يدها وأخرجت ورقةً واحدةً كانت منسوخة بإهمال، تذكرة ذهاب فقط إلى الرياض. “مَن سيستقبلك في مطار الرياض؟” سألتها بإلحاح.
كانت أيضاً غير متأكدة. كل ما تعرفه هو أنها ستجد أحداً في المطار يحمل لافتةً مكتوب عليها اسمها.
قصة مألوفة بشكل مخيف
بدت القصة مألوفةً لي بشكل مخيف. قبل عدة سنوات وبسبب مشروع بحثيّ، كنت قد أجريت مجموعة مقابلات مع نساء كنّ في السابق ضحايا للإتجار بالبشر في الولايات المتحدة الأمريكية. جميعهنّ قلن إنّهنّ تلقّين رسائل من صديقات قدامى لم يروهنّ منذ سنوات عديدة وكنّ يعرضن عليهنّ فرصاً للعمل خارج البلاد. إنها فرصة للسفر، واكتساب الخبرة، وجني بعض المال. إحداهنّ قالت إنها شعرت بأنها قد ربحت اليانصيب عندما حصلت على فرصة عملٍ كهذه.
الطائرة حطّت في القاهرة الآن. سألتُ الفتاة باستعجال: “هل سمعتِ يوماً بالإتجار بالبشر؟”. هزّت رأسها بالنفي وبدأت تشعر بالهلع. التفتت إلى الوراء وبدأت تتكلّم بسرعة مع فتاة أخرى كانت أصغر منها حجماً وترتدي ملابس بيضاء اللون. علمت بعدها أنها في الثانية والعشرين من العمر. طلبت أن أرى تذكرة سفرها لأُفاجأ بأن التذكرتين متطابقتان ومطبوعتان بالطريقة نفسها. رحلتهما ستغادر القاهرة في منتصف الليل، وهذا يعني أنهما ستصلان إلى الرياض حوالي الثالثة صباحاً. بدأت أفكر منزعجة بأنه الوقت المناسب للوصول إلى هذا النوع من الرحلات.
عندما حان وقت الخروج من الطائرة طلبت من الفتاتين البقاء بقربي. “دعوني أتحدث مع السلطات المصرية في المطار لعلّهم يتصلون بالإنتربول”. دخلنا إلى مركز الشرطة التابع لأمن المطار وبدأت بشرح الوضع لأحد العناصر الذي قاطعني سائلاً: “هل هذه عملية اختطاف؟”. “كلا”، أكدت له، “ولكنها غالباً إتجار بالبشر”. سألني: “ماذا يعني الإتجار بالبشر؟” لم أستطع التأكد إذا كان فعلاً لا يعرف ماذا أعني بهذا المصطلح، أو أنّه كان يسخر منّا فقط. توسّلت إليه لأتحدّث مع أحد مسؤوليه.
في هذه الأثناء بدا على الفتاتين الذعر. كانتا تتحدثان إلى بعضهما. التفتت إليّ الفتاة التي كانت جالسةً بجانبي في الطائرة وقالت: “الفتاة الأخرى تلومني لأنني تحدثت إليكِ. إنها تريد أن تلتحق برحلتها. جميع أمتعتها ستذهب إلى السعودية”. طلبت من الفتاتين الانتظار. حاولت الحصول على بعض المعلومات عن طريق “غوغل” من هاتفي المحمول، ولكن كنّا في منطقة لا يتوافر فيها اتصال بالإنترنت.
في النهاية، قابلنا مسؤول أمن المطار، طلبت منه أن يتصل بالإنتربول، فرد قائلاً: “لماذا؟ أليس لديهما تأشيرات عمل من المملكة العربية السعودية؟ هل هما طفلتان؟ هل هناك مَن أجبرهما على المجيء تحت تهديد السلاح؟”. فأجبته: “ولكن الإتجار بالبشر جريمة”. ردّ باستهزاء: “هذا بسبب القوانين والتشريعات في بلادهما اللعينة، إنها ليست مشكلتنا.”
عندما شعرت بأني عاجزة عن فعل أي شيء آخر، أعطيت بطاقة عملي للفتاة التي كانت جالسة بجانبي في الطائرة، وحثثتها على أن تبقى على اتصال بي إنْ استطاعت. توسّلت إليها ألا تدع أحداً يأخذ جواز سفرها منها وأن تتصل مباشرةً بالسفارة النيجيرية في الرياض إذا شعرَت بأن أحداً يسيء معاملتها. تركت الفتاتين يائسةً لتلتحقا بطائرتهما إلى الرياض.
وصلت إلى المكان المخصص للانتظار في المطار وأنا مرتعدة. لم أشعر في حياتي بهذا المقدار من العجز. بدأت أسأل نفسي إنْ كنت قد زدت الوضع سوءاً بجعلهما تشعران بالغضب والتعاسة. في صالة الانتظار، استطعت الاتصال بالإنترنت والبحث عن طريق “غوغل”. شعرت بالهلع عندما وجدت مقالاً يتحدث عن استغلال فتيات من نيجيريا وإرسالهنّ إلى المملكة العربية السعودية للإتجار بأعضائهن.
بعد عدة أسابيع، التقيت بمحامٍ مختصّ بقضايا حقوق الإنسان وسألته عن رأيه. قال: “لسوء الحظ إن السلطات السعودية هي التي تتحمل المسؤولية هنا. لماذا يسمحون لفتيات بلا أي خبرة أو مهارات بالحصول على تأشيرة عمل؟ هل سيكفلون لهؤلاء العاملات ظروف عمل رسمية وقانونية من دون أن يصبحن عرضة للخديعة”. أشار المحامي أيضاً إلى أن هؤلاء المتاجرين يعرفون كيفية إخفاء أثرهم بشكل جيد، فالفتيات لسن قاصرات، ولديهن تأشيرات عمل رسمية، ولم يكن يرافقهنّ أحد. لم يكنَّ يعرفن حتى اسم أي عميل في المملكة. كل شيء يتم ضمن إطار القانون وبشكل شرير للغاية.
رسالة من “ليتيسيا”
بعد مرور عدة أشهر، وجدت رسالة صوتية على هاتف مكتبي متبوعة برسالة إلكترونية مقتضبة من “ليتيسيا”، الفتاة التي كانت جالسة بقربي في الطائرة. شرحَت لي في رسالتها قائلة: “في الأشهر الثلاثة الماضية كانت الأمور صعبة جداً. لقد كانت تماماً كما توقعتِ. أودّ أن أشكركِ لأنك هيّأتني نفسياً لما كنت سأواجه من مصائب. في البدء أُجبرت على تعلّم لغتهم بسرعة. تم الاعتداء عليّ من قبل ربّ المنزل، وتم أيضاً استغلالي بشدة من قبل ربة المنزل وأولادها. بعد فترة طويلة بدأت أشعر بمرض شديد وأصبحت أصلّي ليل نهار طالبةً أن يكون مرضي هو الطريق الذي سيؤدي بي في نهاية المطاف إلى بلدي ومنزلي. استجاب الله لصلواتي، أُخذت إلى المستشفى مرتين، ومما يدعو للاستغراب أنّ الفحوصات الطبية التي أُجريت لي فشلت جميعها في الكشف عن أي شيء، ولكن حالتي الصحية كانت تزداد سوءاً، وبحمد الله أُرسلتُ إلى بلدي وأنا الآن في منزلي متعافية وبصحة جيدة”.
حساب “ليتيسيا” على فيسبوك كان شاهداً على مأساتها. قبل أن نلتقي كانت تسجل دخولاً أو مشاركة كل عدة أيام، تبع ذلك فترة انقطاع وصمت لثلاثة أشهر لينتهي بصورة لها وهي جالسة في مقعد الطائرة وتحتها تعليق صغير يقول: “من الرائع أن يعود الإنسان إلى منزله، شكراً للرب على حمايته.”
مع مرور الوقت، روت “ليتيسيا” تفاصيل إضافية عن مأساتها. عقب الوصول إلى المملكة العربية السعودية، أُخذت بسيارة إلى منزل عائلة لديها أربعة أطفال. منذ لحظة وصولها لم يُسمح لها بمغادرة المنزل إلا إلى المستشفى. كانت تعمل سبعة أيام في الأسبوع من الصباح الباكر حتى ساعة متأخرة من الليل. كانت تُدفع دوماً للعمل بسرعة أكبر من قبل العائلة وزوّار المنزل. خُصّصت لها غرفة نوم في الطابق السفلي بلا قفل مما يسمح لأي فرد من أفراد العائلة أن يدخل غرفتها من دون استئذان. لم نتحدث بالتفصيل عن الاعتداء الجنسي الذي تعرّضت له من قبل ربّ المنزل، ولكنها أشارت إلى أنها تعلمت اللغة العربية لتستطيع أن تصدّ ربّ المنزل وأولاده.
الأسبوعان الأوّلان تحديداً كانا سيئين للغاية على “ليتيسيا” لأنه لم يُسمح لها بأن تتصل بأهلها لتخبرهم بأنها وصلت بأمان. قبل أن تغادر نيجيريا، كانت قد استبدلت بعض النقود. أعطت كلّ ما كانت تحمل من مال إلى ربّة المنزل وتوسلت إليها لتشتري لها خطّ هاتف محمول لتتمكن من مكالمة أهلها، ولكن ربّة المنزل تظاهرت بعدم الفهم. بكت “ليتيسيا” بشدة، وفي النهاية اشترت لها ربّة المنزل شريحة الهاتف ولكن أخبرتها بأنها تستطيع استعمال الهاتف فقط لتتكلم مع أهلها. كانت ربة المنزل تتفحص هاتف “ليتيسيا” يومياً لتتأكد من ذلك، وبدأت أيضاً بزيادة أعباء العمل على “ليتيسيا” بحيث لم يكن يتبقى لديها أي طاقة في نهاية اليوم لتهاتف أهلها إلا لوقت قصير.
نهاية مأساة بالصدفة
كان من الممكن لحياة “ليتيسيا” أن تستمر على هذا النحو سنين عديدة لولا مرضها الشديد. طلبَت من ربّة المنزل أن تشتري لها تذكرة سفر للعودة إلى وطنها. أعطت “ليتيسيا” ربّة المنزل كل ما جنته أثناء عملها من راتب قدره 800 ريال سعودي في الشهر أي حوالي 200 دولار أمريكي، بالإضافة إلى المال التي جلبته معها من نيجيريا.
عادت “ليتيسيا” إلى بلدها وفي حوزتها أقلّ مما كانت تملك من مال عندما ذهبت إلى السعودية للعمل. هي تعلم بأنها استطاعت الفرار بأعجوبة من سنين من العبودية القسرية، ولكنها ما زالت تشعر بأنها مشوشة، وتشعر أيضاً بالعذاب الذي وقع عليها. لا ترغب “ليتيسيا” بأن يتكرر ما حدث لها لفتيات نيجيريات أخريات، ولكنها لا تعرف كيف تنذرهنّ. إنها تؤمن بأن العائلة السعودية يجب أن تُعاقَب على ما فعلته بها، ولكنها على يقين بأن حكومة نيجيريا لن تقوم بفعل شيء حيال هذه القضية.
من جانبي، أنا أمقت الواقع الذي جعلني عاجزةً عن فعل شيء على الرغم من معرفتي بأن هذه الفتاة تتعرض للإتجار. ما الفائدة من تعليم وتوعية الناس على الانتباه إلى إشارات تدلّ على جرائم الإتجار بالبشر إذا كانت السلطات المعنية في كثير من دول العالم لن تتدخل إلا إذا كانت الضحية قاصراً؟ هناك عائلات في المملكة العربية السعودية ودول أخرى قادرة على ممارسة أي نوع من الاستعباد المنزلي لعاملاتهن فقط لأن حكومات بلادهنّ تُصدر تأشيرات عمل لهؤلاء الفتيات الصغيرات الفقيرات غاضّةً الطرف عن محنتهنّ ومعاناتهنّ الأبدية.
قالت المناضلة “هارييت تابمان” التي وُلدت تحت نير العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1855: “إن العبودية هي أقرب شيء إلى الجحيم”. كانت تشعر ببالغ الفزع والغضب لو علمت أنه على الرغم من الثورات التكنولوجية التي مكّنت الإنسان من الطيران فوق السحاب من بلد إلى آخر، فإن العبودية لا تزال مستمرةً حتى القرن الواحد والعشرين.