عمران سلمان – الحرة – 9 أبريل 2021/
لو احتكم السودانيون إلى المنطق والتجربة وحدهما لاستخلصوا بسهولة أنهم لم يكونوا بحاجة إلى فصيل مسلح، كي يضغط من أجل فصل الدين عن الدولة، فالأربعة عقود الماضية من تاريخ السودان الحديث (من عهد نميري إلى عهد البشير) كفيلة بأن توصل الجميع إلى هذا الاستنتاج.
لكن لإن الإنسان لا يسير دائما وفق المنطق ولا يتعظ من التجارب، لذلك فهو عرضة للوقوع في نفس الأخطاء مرة تلو أخرى، وحينها لا بد أن يتعرض إلى صدمة تجبره على تغيير مساره.
وأعتقد أن هذه الصدمة قد جاءت إلى السودان مع توقيع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان فرع الشمال عبد العزيز آدم الحلو على إعلان مبادئ يتم بمقتضاه فصل الدين عن الدولة. وهو بند من جملة بنود تفتح الباب أمام بناء سودان جديد يحترم التنوع في التركيبة الدينية والعرقية وتتعامل الدولة فيه على أساس المواطنة والمساواة.
هل يجد إعلان المبادئ هذا طريقه إلى التطبيق وينعكس في الدستور والقوانين؟ هذا أمر ليس مؤكدا بعد، لكن ما هو مؤكد هو أن وحدة السودان وسلامه متوقفان على هذا الأمر. فالبديل هو استمرار الحروب والنزاعات وانفصال المزيد من الولايات عن السودان القديم.
لو استمع السودانيون إلى ما كان يقوله الزعيم الراحل جون قرنق (الذي أكن له شخصيا كل تقدير ومحبة واحترام) لما انفصل الجنوب عن الشمال. وكان كلامه هو شمس الحقيقة التي حجبتها غيوم الإسلاميين والعروبيين، وهي أن السودان ليس دولة عربية، أو إسلامية، أو أفريقية، أو مسيحية، وإنما هو دولة يوجد فيها مسلمون ومسيحيون ويهود وأرواحيون (الكجور) وأتباع أديان محلية مختلفة وغيرهم، كما يوجد فيها عرب وأفارقة وأجناس أخرى ولذلك لا يمكن أن يحكم بهوية واحدة من تلك الهويات. للأسف لم يستمع أحد لجون قرنق وحصل ما حصل.
اليوم يقول أحد رفاقه وهو عبد العزيز الحلو، الشيء نفسه، وهو يطالب منذ زمن بإقرار العلمانية وفصل الدين عن الدولة لحل مشاكل السودان جذريا، ويحذر في الوقت ذاته من أن البديل عن ذلك هو انفصال ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وربما ولايات أخرى أيضا. فهل يجري الاستماع إليه؟
نأمل ذلك، ونأمل أن تتخلى السلطة المركزية والنخب السياسية في الخرطوم هذه المرة عن الرفض والعناد والمراوغة.
فالسودان الذي نال استقلاله من الاستعمارين البريطاني والمصري عام 1956، كانت لديه الفرصة لبناء دولة مدنية وعلمانية حديثة، تعترف بجميع مكوناته وشعوبه وأقاليمه المتنوعة. لكن هذا السودان فشل في ذلك بامتياز، بسبب الإصرار على فرض العروبة والإسلام وتهميش المكونات الأخرى.
لهذا لم يهدأ هذا السودان منذ ذلك الوقت، وكان عليه أن يخوض في بحر الانقلابات العسكرية المتتالية والنزاعات المسلحة والمجازر والدمار الواسع.
هذا السودان القديم، الآخذ في التآكل والتفسخ، هناك من يريد الإبقاء عليه على قيد الحياة، على الرغم من كل المآسي التي تسبب بها، وعلى الرغم من التجارب المريرة والنتائج الكارثية.
لماذا وما هي المبررات؟
إن الذين لا يرون العلاقة بين أن يكون للدولة هوية دينية وبين إقامة الحكم الديني، وهو في حالتنا الإسلام السياسي لا يفعلون سوى مغالطة أنفسهم.
فحين يكون دين الدولة هو الإسلام والشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، من الطبيعي أن تطالب جماعات الإسلام السياسي بإقامة الحكم الديني، انطلاقا من تفسيرها المصلحي والملتوي للدين.
أما حين تزال تلك الهوية، وتصبح الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان وتحترم الحرية الدينية وتضمنها للجميع، لا يعود بإمكان أحد أن يشهر على الناس هذا السلاح أو يستخدمه كوسيلة للوصول إلى السلطة.
أما القول بأن معظم سكان السودان هم من المسلمين وبالتالي يجب أن يكون دين الدولة هو الإسلام، فهذه حجة باطلة لسبيين، الأول أن جميع الدول العلمانية توجد بها أغلبية دينية أيضا، فأغلب السكان الهنود هم من الهندوس وكذلك يشكل المسيحيون أكبر المجموعات السكانية في الدول الغربية، كما يشكل المسلمون الأغلبية في تركيا، وهكذا، مع ذلك فإن هذه الأغلبية لم تكن مبررا لأن يكون للدولة هوية دينية.
أما السبب الثاني، فهو أن الدولة بحكم طبيعتها وتكوينها لا يمكن أن يكون لها دين، كما أن فصل الدين عن الدولة لا يحرم المسلمين أو غيرهم من ممارسة دينهم أو أداء شعائرهم. على العكس من ذلك، فإن الدولة تضمن هذه الحرية بقوة القانون وتمنع الاضطهاد الديني لأي سبب كان.
وباختصار نقول إن السودان إزاء ولادة تكوينية جديدة ولديه فرصة للخروج من جحيم الأزمات التي سببتها الولادة الأولى المبتسرة، وهي أن يرتقي بأبنائه فوق العنصرية والإكراه الديني ويحتضن بشكل أصيل جميع مكوناته العرقية والدينية والثقافية من سكان النوبة في الشمال إلى جنوب كردفان إلى أهل الشرق والغرب.