دينا البسنلي – دويتشه فيله – 23 مارس 2021/
اتخاذ القرارات الشخصية لا يكون أمرا سهلا في بعض الأحيان خوفا من “كلام الناس”، ولكن حين يصل الأمر لحد الإيذاء، فلابد من وجود خلل ما. فما سبب عدم احترام البعض حرية وخصوصية الآخرين والاعتداء عليهم أحيانا؟
قررت نورا، اسم مستعار، الاستقلال عن أسرتها واستئجار منزل للعيش فيه بمفردها. الشابة المصرية البالغة من العمر 38 عاما مازلت نفس الشخص وتقوم بنفس الأشياء، على حد تعبيرها، لكنها كانت فقط “في حاجة لمساحة شخصية” خاصة بها. وتعيش أسرة نورا في واحد من أقدم الأحياء الشعبية في القاهرة. ولكن بتقدمها في العمر ونجاحها في عملها وتحقيقها الاستقلال المادي، لم تعد تشعر بالراحة في حيها القديم بسبب ما تصفه بـ “تتبع الناس بعيونها للنساء وفحص ملابسهن والتدقيق في سلوكهن، وإصدار الأحكام عليك من مظهرك ومما يرونه من بعيد”.
”عايزة الناس تقول عننا إيه”!
في حوار أجرته معها DW عربية، تقول نورا عن رفض شقيقها لفكرة انتقالها: “رفض أخي الاقتراح تماما. هو متزوج وله أسرته وبيته وحياته الخاصة. ولكن ماذا عني؟! وما الذي سيحدث لي إذا فارق أبي وأمي الحياة؟! هل سيترك أخي حياته ويأتي لزيارتي مثلا والاطمئنان على يوميا؟!“. وتضيف: “المجتمع غير مستعد لتقبل الفكرة لدرجة أنه لدى طلاق شقيقتي من زوجها، رفض أخي رفضا قاطعا أن تعيش بمفردها خوفا من كلام الناس وأن يتهموا أسرتنا بالتخلي عنها؛ وقال عايزة الناس تقول عننا إيه أننا رمينا بنتنا؟”!
وبعد حصول نورا أخيرا على موافقة أخيها، اصطحبت والديها لرؤية المنزل الذي اختارته لنفسها وقالت: “فضلت حضورهم معي لدى توقيع عقد الإيجار، أولا ليطمئنوا على وثانيا لأن الكثيرين من أصحاب العقارات يرفضون تأجير الشقق للنساء ويفضلون الأسر أو الأزواج. الأمر غير مرحب به في الثقافة العربية حيث يخشون من قيام الشخص الذي يعيش بمفرده من استضافة آخرين والتسبب في مشاكل ما!”.
وترفض أسرة نورا حتى الآن إخبار أي شخص بشأن انتقال ابنتها للعيش بمفردها. كما قررت هي الأخرى عدم الحديث عن الأمر سوى للأشخاص المقربين منها أو لمن سيتفهم رغبتها، على حد قولها، فهي تتجنب أن يؤدي قرارها الشخصي إلى “سوء ظن البعض أو النظر إليها بشكل خاطئ”.
“المجتمع يتيح التدخل في حياة الأخرين”!
تداولت وسائل الإعلام المصرية مؤخرا خبر وفاة سيدة تبلغ من العمر 34 عاما لسقوطها من شرفة منزلها في أحد أحياء القاهرة، عقب اقتحام ثلاثة أشخاص منزلها اعتراضا على وجود رجل في الشقة التي تعيش فيها بمفردها، وفقا لموقع مدى مصر.
وأشارت تحقيقات النيابة العامة لاحقا إلى اقتحام ثلاثة أشخاص لمسكن سيدة حاملين أسلحة بيضاء وقاموا بتهديدها، ليبلغ الرعب من المجني عليها إلى أن تهرع لشرفة مسكنها وتلقي بنفسها إلى الشارع، مما أودى بحياتها.
وأمرت السُلطات بإحالة المتهمين للمحاكمة الجنائية بتهمة “البلطجة واستعراض القوة والتلويح بالعنف ضد امرأة وشخص آخر بقصد ترويعهما وتهديدهما بإلحاق الأذى المادي والمعنوي بهما”، وفقا للصفحة الرسمية للنيابة العامة المصرية على موقع فيسبوك.
وفي حديث لـ DW عربية، ترى أستاذة علم الاجتماع والمديرة السابقة لمركز البحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة، الدكتورة نسرين البغدادي، أن من شأن ما تكفله الدساتير العربية من حرية شخصية للمواطنين، فضلا عن نهي الأديان المختلفة عن التجسس والغيبة والسخرية “الحد من التدخل والتجسس على حياة الآخرين”.
ولكن ما يحول دون احترام المساحات والحريات الشخصية في كثير من الأحيان، هو أن بعض المجتمعات العربية “ذات نسق منغلق تفرض نمطا من العلاقات فيه قدر من المساندة بما يتيح التدخل في تفاصيل حياة الغير”، على حد تعبير البغدادي، التي تضيف بأن “البعض يعتبر التدخل حق يستبيح معه تتبع خطوات الآخر والتعرف على تفاصيل حياته. ويتواكب مع هذا النوع من الفضول حالة من التربص والترقب”. وتتابع “تتيح تلك الثقافة المجتمعية وضع المرأة دائما في إطار من مراقبة السلوك، بل وتتيح أيضا المحاسبة المجتمعية لها والنظر إليها بصورة مستهجنة قد تقود أحيانا إلى إيذائها دون اللجوء إلي القانون”.
قوانين كافية نحتاج فقط لتنفيذها واحترامها”؟
تنص المادة رقم 41 من الباب الثالث المخصص للحريات والحقوق والواجبات العامة في الدستور المصري على أن “الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة وفقا لأحكام القانون”.
ويرى أستاذ القانون ورئيس قسم الشريعة في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، الدكتور محمد يوسف، في حوار مع DW عربية، أن القوانين المعمول بها في مصر “كافية للسيطرة على الجريمة”، ويضيف “لكننا نحتاج فقط لأن يكون الجميع مخلصون سواء من حيث تنفيذ القانون أو احترامه”.
واستخدم يوسف ما تشهده مصر من نقاشات بشأن تعديل قانون الأحول الشخصية المعمول به حاليا في مصر والجدل حول تأثيره على حقوق المرأة، نموذجا للعمل على تعديلات التشريعات القانونية استجابة لمتطلبات العصر، على حد تعبيره.
ويعتبر يوسف ما يقع من حين لآخر من حوادث تعدى على الحريات والمساحات الشخصية لأي فرد “حالات فردية ليس لها مبرر قانوني أو شرعي. وأنه حتى في حال وجود حق لشخص ما لدى الآخر فليلجأ حينها للوسائل القانونية”. ويضيف: “لا اختلاف في مفهوم الحرية بين القانون والشريعة، فالحرية الشخصية تعني أن يقول ويفعل الإنسان ما يشاء، طالما أن ما يقوله وما يفعله لا يخالف النظام العام والآداب العامة والمعتقد الديني”. ويوضح أستاذ القانون والشريعة أن “مفهوم الحرية مقيد بعدم التسبب في أي ضرر للآخر والقول بغير ذلك يعني الهمجية والعشوائية”، مؤكدا على أهمية زيادة الوعي القانوني لدى بعض فئات المجتمع.
ولكن يخشى البعض من الآثار التي قد تنتج عن الاتساع أو عدم الوضوح الذي تتسم به بعض المصطلحات، مثل “النظام العام” أو “الآداب العامة”، بشكل ربما يشجع البعض على انتهاك الحريات الشخصية للأخرين. ودعت منظمة هيومان رايتس ووتش مصر إلى “عدم استمداد الآداب العامة من مجموعة واحدة من التقاليد أو الدين أو الثقافة، وإنما أن تقوم على التنوع في المجتمع”، وفقا لتقرير منشور في أغسطس/ آب الماضي على موقع المنظمة، كما طالبت بأن يكون أي قانون جنائي “محددا بوضوح تام ليخول أي شخص بأن يتوقع أي سلوك يُعتبر جريمة”.
“من رأى منكم منكرا فليغيره”
بالإضافة إلى الجانبين الاجتماعي والقانوني للقضية، هناك بعد أخر ذو طابع ديني حيث يلجأ البعض لعدد من تفسيرات الشريعة الإسلامية لتبرير تعديهم على المساحات الشخصية للآخرين وانتهاك حقوقهم وحرياتهم.
وفي لقاء مع DW عربية، حذرت أستاذة الدراسات الإسلامية في الجامعة التونسية والخبيرة بحركة مساواة الدولية، الدكتورة زاهية جويرو، من تأثير التفسيرات المتشددة للشريعة الإسلامية، كجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية. وتقول جويرو:” حتى مع إلغاء هذا النوع من المؤسسات بشكل رسمي في غالبية البلدان الإسلامية، تستمر العقلية التي خلقتها تلك المؤسسة والتي جعلت بعض الأفراد يتصورون وكأنهم مسؤولون عن مراقبة الأخلاق العامة وعقاب من يخترقها في تقديرهم!”.
ويوضح أستاذ القانون ورئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة دكتور محمد يوسف أن حديث “من رأى منكم منكرا فليغيره” المخاطب به هو الحاكم أو سلطة إنفاذ القانون، ويقول: “التغيير باليد ليس من سلطة أي شخص آخر، وإلا جعل كل إنسان من نفسه حاكما على الأخرين، وهذه هي العشوائية التي ينهى عنها الشرع والقانون”.
وضمن الإصلاحات التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي اعتادت لسنوات طويلة على تسيير دوريات في الأماكن العامة لإنفاذ الحظر المفروض على الخمر والموسيقى واختلاط الرجال بالنساء ممن لا تربطهم بهن صلة قرابة والتأكد من غلق المحال التجارية أثناء الصلاة والتزام النساء بالزي المحتشم. ولكن الهيئة تحولت مؤخرا “من فعل الأمر إلى أسلوب التحذير وسط التغييرات التي يشهدها المجتمع السعودي”، على حد وصف موقع الخليج أونلاين.
وترى جويرو أن هناك فهم خاطئ للإيمان حينما “يتخيل البعض أن إيمانهم يعطيهم سلطة على ضمائر الآخرين، وبهذه السلطة يسمح الشخص لنفسه بمحاسبتهم والحديث عن عدم تقيدهم من وجهة نظره بحدود الله، بل ويسمح لنفسه أحيانا بتجاوز مستوى الكلام إلى العنف”، على حد قولها.
وتدعو جويرو المؤسسات المسؤولة عن تنمية الوعي بالعالم العربي، وفي مقدمتها المؤسسات الإعلامية، بأن تقوم بدورها التوعوي، وتقول: “لم نغرس في نفوس الناس مفهوم أن الدين ليس فقط عقيدة وممارسات وشعائر ومظاهر، وإنما هو أيضا مسؤولية اجتماعية. وعدم استيعاب البعض لذلك هو ما يؤدي لسوء فهمهم لأن يكون لكل إنسان حريته وفضاؤه الخاص به دون تدخل من أحد”.