زيارة البابا للعراق ومحنة مسيحيي الشرق

عمران سلمان – الحرة – 12 مارس 2021/

زيارة بابا الفاتيكان فرانسيس للعراق ولقائه بالزعماء الدينيين والسياسيين هي دعم قوي من جانب البابا لإشاعة السلام وبعث الأمل في هذا البلد الذي لا يبدو أن هناك حدودا لمعاناته، لكن الزيارة من ناحية أخرى هي أيضا تذكير قوي بمحنة المسيحيين في الشرق والذين يتهددهم خطر الفناء.

خطر الانقراض

وأن يدعو البابا إلى إسكات صوت السلاح والانصراف إلى بناء السلام، وأن يعتبر “العداوة، والتطرف، والعنف … تلك أشياء لا تنبت في قلب متدين، إنها نواقض التدين”، فذلك جزء من الرسالة التي ما فتئ البابا يرددها، بل ويطبقها في حياته كل يوم.

لكن هل تنبت هذه الكلمات في هذا الشرق الغارق في البؤس والكراهية والتطرف والاقتتال؟ هذا سؤال ليس من العسير الإجابة عليه.

لكن ما نعرفه حقا هو أن الثقافة العربية والإسلامية والمسلحة بالتراث الديني، في جانبها الأعم، هي طاردة لكل مخالف أو مختلف. فعلى مدى قرن من الزمان، تقلصت أعداد المسيحيين واليهود والأيزيديين والبهائيين وغيرهم في هذه الدول على نحو مخيف.

لم يحدث ذلك فقط على أيدي المتطرفين والجماعات الإسلامية الإرهابية، ولكن على أيدي الحكومات والمؤسسات الرسمية والأهلية المختلفة أيضا.

ففي العراق كان عدد المسيحيين يزيد على مليون ونصف المليون مسيحي قبل عشرين عاما فقط، بينما هو اليوم يتراوح بين 200 ألف إلى 300 ألف مسيحي.

وفي سوريا كان عدد المسيحيين في عام 2011 يبلغ مليون ونصف المليون مسيحي، وهم الآن لا يزيدون على 500 ألف.

ونسب الانخفاض هذه يمكن إيجاد ما يوازيها أيضا في بعض البلدان والمناطق العربية والإسلامية الأخرى، بما في ذلك أراضي السلطة الفلسطينية. فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية لا تتجاوز 1 في المئة، بعد أن كانوا يشكلون قبل عام 1948 حوالي 11.2 في المئة.

ولا يختلف الأمر كثيرا في تركيا، فقد كان المسيحيون يشكلون قرابة 20 في المئة من عدد سكانها قبل الحرب العالمية الأولى، واقد انخفضت نسبتهم الآن إلى أقل من واحد في المئة.

تفر بجلدها

والمسألة لا تقتصر على المسيحيين فقط، فقد حدث ذلك أيضا للأقليات الدينية الأخرى، مثل اليهود، الذين إما أجبروا على الهجرة قسريا من الدول العربية والإسلامية إلى إسرائيل بعد إسقاط جنسياتهم وطردهم، وإما هاجر بعضهم من تلقاء نفسه هربا من التمييز وسوء المعاملة وانعدام الأمن والاستقرار.

ومن أصل قرابة 900 ألف يهودي كانوا يعيشون في الدول العربية قبل عام 1948 لم يتبق اليوم سوى بضعة آلاف قليلة منهم.

أما الأيزيديون والذين تعرضوا خلال تاريخهم الطويل إلى العديد من المجازر وعمليات التصفية على يد الحكومات التي تناوبت على حكم مناطقهم في العراق وتركيا وسوريا، فقد واجهوا عملية إبادة حقيقية على أيدي مسلحي تنظيم داعش الإرهابي الذي اجتاح الموصل في عام 2014.

حيث قتل مسلحو التنظيم حوالي 5 آلاف رجل إيزيدي، وخطفوا واستعبدوا 7 آلاف امرأة، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. ومن أصل نصف مليون إيزيدي في العراق هاجر أكثر من مئة ألف جراء هذه الحملة، فيما يشعر الباقون بصعوبة العيش بين المسلمين، وهم يتطلعون إلى الهجرة متى سنحت لهم الظروف.

والواقع أنه لا توجد أقلية غير إسلامية في الشرق لا تعاني، بصورة أو بأخرى، إما من الاستهداف المباشر كالقتل وإما عبر سلسلة طويلة ومعقدة من التضييقات والقيود والروادع.

وفي حين تزداد أعداد المسلمين في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فإن الأقليات الدينية في المشرق تفر بجلدها، تاركة مواطنها التاريخية والأصلية.

معاناة من نوع آخر

بالطبع سيصح القول بأن العرب والمسلمين هم أيضا يعانون من الحروب والاضطهاد والتمييز في بلدانهم إما على أسس طائفية أو فكرية أو اقتصادية أو اجتماعية.. إلخ.

ولكن هذه المعاناة تختلف عن معاناة أتباع الأديان الأخرى. فالأولى هي معاناة ظرفية ومرتبطة بأوضاع سياسية واقتصادية معينة، وبالتالي يمكن أن تتغير مع الوقت، نظريا على الأقل.

أما المعاناة الثانية فهي مؤبدة. إذ هي مرتبطة بكونهم غير مسلمين، وليس لخطأ ما ارتكبوه. جريمتهم الوحيدة هي اعتناقهم دينا آخر غير الإسلام!

وقد جرى تأسيس معظم الدول العربية الحديثة التي نشأت بعد مرحلة الاستعمار، كي تعكس الطابع الإسلامي، بما في ذلك دين الدولة، الأمر الذي ترك أتباع الديانات الأخرى يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وكان ذلك بمثابة إغلاق بوابة الأمل والمستقبل في وجوههم.

فالقوانين والتشريعات المختلفة، وأنظمة التعليم، والنظام الإداري وأسس الثقافة بنيت جميعها وفق المعتقدات الإسلامية وعلى أساس أن السكان هم من المسلمين فقط.

كما فسر المسلمون تراثهم الديني على النحو الذي يحط من قدر وشأن أتباع باقي الأديان ومعاملتهم معاملة أدنى، وفي أحيان ليست قليلة كان الخطاب السائد يشير بصورة مباشرة إلى المسيحيين واليهود وغيرهم بوصفهم كفرة ومشركين أو محرفين.

وفي ظل غياب الدولة المدنية والعلمانية وسيادة قيم المواطنة وحقوق الإنسان، فإن أوضاع الأقليات الدينية ومصائرها ظلت رهينة للتقلبات السياسية وأمزجة الحكام وأهوائهم، فلا عجب أن يظل هاجسهم هو الفرار والبحث عن ملاذ آمن ومستقر.. لتخسر بذلك هذه البلدان أقواما فريدة، نشأت على هذه الأرض وعاشت منذ آلاف السنين.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *